الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          الكلام على قوله تعالى :

          يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله


          معنى تلهكم : أي تشغلكم ، وفي المراد بذكر الله تعالى أربعة أقوال : أحدها : طاعته في الجهاد ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، والثاني : الصلاة المكتوبة ، قاله عطاء ، والثالث : الفرائض كلها ، قاله الضحاك ، والرابع : أنه على إطلاقه فحضهم على إدامة الذكر ، قاله الزجاج ، قال بعض السلف : كل شيء يشغلك عن الله عز وجل من مال وولد فهو مشئوم عليك .

          [ ص: 332 ] قوله تعالى : وأنفقوا من ما رزقناكم في هذه بالنفقة ثلاثة أقوال : أحدها الزكاة ، قاله ابن عباس ، والثاني : النفقة في الحقوق الواجبة بالمال ، قاله الضحاك ، والثالث : صدقة التطوع ، ذكره الماوردي ، فيكون على هذا القول ندبا وعلى ما قبله واجبا .

          قوله تعالى من قبل أن يأتي أحدكم الموت أي من قبل أن يعاين ما يعلم معه أنه ميت فيقول رب لولا أي هلا أخرتني إلى أجل قريب يريد بذلك الاستزادة في أجله ليتصدق .

          قوله تعالى : وأكن من الصالحين وقرأ أبو عمرو : " وأكون من الصالحين " قال الزجاج : من قرأ " وأكون " بالواو فهو على لفظ فأصدق ، ومن جزم : وأكن فهو على موضع فأصدق ، لأن المعنى : إن أخرتني أصدق وأكن ، قال ابن عباس : فأصدق أزكي مالي . وأكن من الصالحين أي أحج مع المؤمنين ، قال : وما من أحد يموت قد كان له مال لم يزكه وأطاق الحج فلم يحج إلا سأل الرجعة عند الموت .

          واعلم أن أفضل الصدقة في حال الصحة والسلامة .

          أخبرنا ابن عبد الواحد ، أنبأنا ابن المذهب ، أخبرنا أبو بكر بن مالك ، حدثنا عبد الله بن أحمد ، حدثني أبي ، حدثنا جرير بن عبد الحميد ، عن عمارة بن القعقاع ، عن أبي زرعة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الصدقة أفضل ؟ قال : " أن تصدق وأنت شحيح صحيح تأمل البقاء وتخاف الفقر ، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت : لفلان كذا ولفلان كذا ، ألا وقد كان لفلان " .

          أخرجاه في الصحيحين :

          أخبرنا محمد بن عمر الفقيه ، أخبرنا محمد بن علي بن المهتدي ، حدثنا عبد الله بن أحمد بن الصباح ، حدثنا محمد بن معن ، حدثنا محمد بن محمد بن حيان ، حدثنا محمد بن كثير ، حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي حبيبة الطائي ، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الذي يعتق عند الموت كمثل الذي يهدي إذا شبع " .

          [ ص: 333 ] وقيل لميمون بن مهران : إن فلانا أعتق كل مملوك له يعني عند الموت ، فقال : يعصون الله مرتين : يبخلون به وهو في أيديهم ، حتى إذا صار لغيرهم أسرفوا فيه ! .

          وليعلم البخيل أن ما أخرجه له وما تركه لغيره .

          وفي أفراد البخاري من حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله ؟ " قالوا : يا رسول الله ما منا أحد إلا ماله أحب إليه ، قال : " فإن ماله ما قدم ومال وارثه ما أخر " .

          وفي أفراد مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يقول العبد : مالي مالي ، وإنما له من ماله ثلاث : ما أكل فأفنى أو لبس فأبلى أو أعطى فاقتنى ، ما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس " .

          أخبرنا الكروخي ، أنبأنا الأزدي والغورجي ، قالا : أنبأنا الجراحي ، حدثنا المحبوبي ، حدثنا الترمذي ، حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا يحيى بن سعيد ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي ميسرة ، عن عائشة رضي الله عنها أنهم ذبحوا شاة فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما بقي منها ؟ قالت : ما بقي منها إلا كتفها ، قال : بقي كلها إلا كتفها " .

          من علم فضل الإيثار بالصدقة حمل النفس على الإخراج .

          بعث إلى عائشة بمال عظيم ففرقته على الفقراء فقالت جاريتها : لو خبأت درهما نشتري به لحما نفطر عليه ؟ فقالت : لو ذكرتيني لفعلت .

          بالجد فاز من فاز ، وبالعزم جاز من جاز ، وما حاز الثناء من للمال حاز .


          وسائل عنهم ماذا تقدمهم فقلت فضل به عن غيرهم بانوا     كما عرضوا للمنايا الحمر أنفسهم
          فحان قوم توقوها وما حانوا     وألهج الحمد بالأبطال بينهم
          أن ليس بينهم للمال إبطان

          واعجبا لغني يبخل بما يفنى ، لفقير لا يصبر على ما يبقى .


          أعاذل إن المال غير مخلد     وإن الغنى عارية فتزود
          فكم من جواد يفسد اليوم جوده     وساوس قد خوفته الفقر في غد

          كم ناداك مولاك وما تسمع ، وكم أعطاك ولكن ما تقنع ، لقد استقرضك مالك فمالك [ ص: 334 ] تجمع ، وضمن أن تنبت الحبة سبعمائة وما تزرع ، ليكن همك في طلب المال الإفضال به ، فإن الشريف الهمة لا يطلب الفضل إلا للفضل .

          قال أعرابي لأخيه : إن مالك إن لم يكن لك كنت له ، فكله قبل أن يأكلك .

          كم مخلف لمتخلف ، ترك لمن لا يحمده وقدم على من لا يعذره ، ران على القلوب حب الدنيا فجمعتها كف الشره ، وتمسكت بها أيدي البخل ، فلو تلمحت معنى : من ذا الذي يقرض أو اشتقت إلى أرباح فيضاعفه لرأيت إنفاق كل محبوب حقيرا في جنب ما ترجو .

          فتدبروا إخواني أحوالكم ، وأنفقوا في الخير أموالكم ، فإن المال إذا أخذتم في سيركم لغيركم .


          يا مال كل جامع وحارث     أبشر بريب حادث ووارث
          إن الغنى والفقر غير لابث     ولا يهاب الموت نفث نافث
          قد يحصد الجنة غير الحارث     ويدهق الدلو لغير النابث
          جد الزمان وهو مثل العابث     أقسم أن يسيء غير حانث

          أخبرنا محمد بن ناصر ، أنبأنا أحمد بن جعفر ، حدثنا الحسن بن علي ، أنبأنا أحمد بن جعفر حدثني أبي ، حدثنا المغيرة ، حدثنا صفوان ، عن يزيد بن ميسرة ، قال : كان رجل ممن مضى جمع مالا فأوعى ثم أقبل على نفسه وهو في أهله فقال : انعمي سنين ، فأتاه ملك الموت فقرع الباب فخرجوا إليه وهو متمثل بمسكين فقال لهم : ادعوا لي صاحب الدار فقالوا : يخرج سيدنا إلى مثلك ! ثم مكث قليلا ثم عاد فقرع باب الدار وصنع مثل ذلك فقال : أخبروه أني ملك الموت ، فلما سمع سيدهم قعد فزعا وقال : لينوه بالكلام ، فقالوا : ما تريد غير سيدنا بارك الله فيك ؟ قال : لا ، فدخل عليه فقال له : قم فأوص ما كنت موصيا فإني قابض نفسك قبل أن أخرج ، قال : فصاح أهله وبكوا ثم قال : افتحوا الصناديق والتوابيت وافتحوا أوعية الذهب والفضة ، ففتحوها جميعا فأقبل على المال يلعنه ويسبه ويقول : لعنت من مال ! أنت الذي أنسيتني ربي تبارك وتعالى وأغفلتني عن العمل وأخرتني حتى بلغني أجلي ، فتكلم المال وقال : لا تسبني ، ألم تكن وضيعا في أعين الناس فرفعتك ؟ ألم ير عليك من أثري ؟ وكنت تحضر سوق الملوك فتدخل ويحضر عباد الله الصالحون فلا يدخلون ؟ ألم تكن تخطب بنات الملوك والسادات فتنكح ، ويخطب عباد الله الصالحون فلا ينكحون ؟ ألم تكن تنفقني في سبيل الخبيث فلا أتعاصى ولو [ ص: 335 ] أنفقتني في سبيل الله لم أتعاص عليك ؟ فأنت اليوم ألوم مني ، إنما خلقت أنا وأنتم يا بني آدم من تراب ، فمنطلق ببر ومنطلق بإثم .

          فهكذا يقول المال فاحذروا .

          كان ملك الموت يأتي الناس في صورة البشر ، فركب بعض الجبارين في جنده يوما فلقيه ملك الموت فقال : من أنت ؟ قال : أنا ملك الموت ، فقال : دعني آتي أرضي التي خرجت إليها ثم أرجع من موكبي ، فقال : لا والله لا ترى أرضك أبدا ولا ترجع من موكبك أبدا ، قال : فدعني أرجع إلى أهلي ، فقال : لا والله لا ترى أهلك أبدا ، فقبض روحه .

          وبينا رجل ينظر في أصناف ماله طلع ملك الموت فقال : والذي خولك ما ترى ما أنا بخارج من منزلك حتى أفرق بين روحك وبدنك ، قال : فالمهلة حتى أفرقه ، قال : هيهات ! انقطعت عنك المهلة .

          ولاح ملك الموت لرجل فقال لأهله : ايتوني بصحيفة ، فقال ملك الموت : الأمر أعجل من ذلك ، فقبض روحه قبل أن يؤتى بالصحيفة .

          إخواني : استدركوا قبل الفوت وانتهوا قبل الموت ، وأصيخوا فقد أسمع الصوت .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية