الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          قال بعض الصالحين : لقيت غلاما في طريق مكة يمشي وحده فقلت له : ما معك مؤنس ؟ قال : بلى . قلت : أين هو ؟ قال : أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي ومن [ ص: 404 ] فوقي ؟ قلت : أما معك زاد ؟ قال : بلى . قلت : أين هو ؟ قال : الإخلاص والتوحيد والإيمان والتوكل . قلت : هل لك في مرافقتي ؟ فقال : الرفيق يشغل عن الله عز وجل ولا أحب أن أرافق من يشغلني عنه طرفة عين . قلت أما تستوحش في هذه البرية ؟ قال : إن الأنس بالله قطع عني كل وحشة ، فلو كنت بين السباع ما خفتها . قلت : ألك حاجة ؛ قال : نعم إذا رأيتني فلا تكلمني فقلت : ادع لي . قال : حجب الله طرفك عن كل معصية وألهم قلبك الفكر فيما يرضيه . قلت : حبيبي أين ألقاك ؟ قال : أما في الدنيا فلا تحدث نفسك بلقائي ، وأما الآخرة فإنها تجمع المتقين فإن طلبتني هناك فاطلبني في زمرة الناظرين إلى الله عز وجل . قلت : وكيف علمت ؟ قال : بغض طرفي له عن كل محرم واجتنابي فيه كل منكر ومأثم ، وقد سألته أن يجعل جنتي النظر إليه . ثم صاح وأقبل يسعى حتى غاب عن بصري .


          وما تلوم جسمي عن لقائكم إلا وقلبي إليكم شيق عجل     وكيف يقعد مشتاق يحركه
          إليكم الحافزان الشوق والأمل     فإن نهضت فما لي غيركم وطر
          وإن قعدت فما لي غيركم شغل     وكم تعرض لي الأقوام بعدكم
          يستأذنون على قلبي فما وصلوا



          سجع :

          سبحان من قدمنا على جميع الناس ، وسقانا من معرفته أروى كاس ، وجعل نبينا أفضل نبي رعى وساس ، فلما فضله على الأمة وأنعم علينا بعلو الهمة قال لنا : كنتم خير أمة أخرجت للناس .

          أفي الأمم مثل أبي بكر الصديق ، أو عمر الذي أغص كسرى بالريق ، أو عثمان الصابر على مر المذيق ، أو علي بحر العلم الغمر العميق ؛ أو مثل حمزة والعباس .

          أفيهم مثل طلحة والزبير القرينين ، أو سعد وسعيد هيهات من أين ، ألهم صبر خباب وخبيب ومن مثل الاثنين ، إن شبهناهم بهم أبعدنا القياس . هل شجرة الرضوان في أشجارهم ، هل وقعة بدر من أسمارهم ، إنما عرضت لهم غزاة في جميع أعمارهم ، وجهادنا مع الأنفاس كنتم خير أمة أخرجت للناس .


          أين أصحاب الأنبياء من أصحابنا ، هيهات ما القوم من أضرابنا ، ولا ثوابهم في الأخرى مثل ثوابنا ، نتق الجبل فقالوا : أقلنا ونحن قلنا في كتابنا على العينين والراس كنتم خير أمة أخرجت للناس .

          [ ص: 405 ] ردوا كتابهم وقد سطر وصك ، وطلبوا صنما وقيد الهجر قد فك ، وشكوا عند الجبل وما فينا من يشك ، إن تشبيه المسك باللك وسواس . غمرهم التغفيل وتناهى فاعتقدوا للخالق أشباها ، فقالوا يوم اليم اجعل لنا إلها وما في عقائدنا نحن التباس .

          آثر الصحابة الفقر والمجاعة ، واشتغلوا عن الدنيا بالطاعة ، وسألت النصارى مائدة للمجاعة ، إنما طلبوا قوت الأضراس .

          أعند رهبانهم كزهد أويس أفي متعبديهم كعامر بن قيس ، أفي خايفهم كالفضيل ، هيهات ليس ضوء الشمس كالمقياس .

          أفيهم مثل بشر ومعروف ، أفي زهادهم مذكور معروف ، أفي طوائفهم طائفة صلت وقد صلصلت السيوف ورنت الأقواس .

          أفيهم مثل أبي حنيفة ومالك ، أو كالشافعي الهادي إلى المسالك ، كيف لا تمدحه وهو أجل من ذلك ما أحسن بنيانه والأساس .

          أفيهم أعلى من الحسن وأنبل ، أو ابن سيرين الذي بالورع تقبل ، أو كأحمد الذي بذل نفسه وسبل ، تالله ما فيهم مثل ابن حنبل ، ارفع صوتك بهذا ولا باس كنتم خير أمة أخرجت للناس .

          [ ص: 406 ] انتهى الجزء الأول من كتاب التبصرة للإمام أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي ويليه الجزء الثاني وأوله : " الطبقة الثانية " .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية