الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          الكلام على قوله تعالى :

          إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون


          سبب نزولها أنه لما نزل : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم شق ذلك على قريش ، وقالوا : شتم آلهتنا ، فجاء ابن الزبعرى فقال : مالكم ؟ قالوا : شتم آلهتنا ، قال : وما قال ؟ فأخبروه ، فقال : ادعوه لي . فلما دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يا محمد هذا شيء لآلهتنا خاصة أو لكل من عبد من دون الله ؟ قال : بل لكل من عبد من دون الله عز وجل . قال ابن الزبعرى : خصمت ورب هذه البنية ! ألست تزعم أن الملائكة عباد صالحون ، وأن عيسى عبد صالح ، وأن عزيرا عبد صالح ؟ فهذه بنو مليح يعبدون الملائكة ، وهذه النصارى تعبد عيسى ، وهذه اليهود تعبد عزيرا ، فضج أهل مكة ، فنزلت هذه الآية . قاله ابن عباس .

          اسم ابن الزبعرى : عبد الله كان يهجو أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ( والزبعرى ) بفتح الباء .

          قال المفسرون : وإنما أراد بقوله وما تعبدون الأصنام ، لأنه لو أراد الملائكة والناس لقال ومن .

          [ ص: 593 ] والحسنى عند العرب : كلمة توقع كل محبوب ومطلوب ، قال امرؤ القيس :


          فصرنا إلى الحسنى ورق كلامنا ورضت فذلت صعبة أي إذلال

          وقوله تعالى : أولئك عنها أي عن جهنم مبعدون والبعد طول المسافة ، والحسيس : الصوت تسمعه من الشيء إذا مر قريبا منك .

          وقال ابن عباس : لا يسمع أهل الجنة حسيس أهل النار إذا نزلوا منازلهم من الجنة وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون .

          أخبرنا عبد الأول بسنده إلى عطاء بن يسار ، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوما يحدث وعنده رجل من أهل البادية ، فقال : إن رجلا من أهل الجنة استأذن ربه في الزرع فقال له : أو لست فيما شئت ؟ قال : بلى ، ولكني أحب أن أزرع ، فأسرع وبذر فبادر الطرف نباته واستواؤه واستحصاده ، فيقول الله عز وجل : دونك يا بن آدم لا يشبعك شيء ، فقال الأعرابي : يا رسول الله لا نجد هذا إلا قرشيا أو أنصاريا فإنهم أصحاب زرع ، فأما نحن فلسنا بأصحاب زرع . فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم .

          انفرد بإخراجه البخاري .

          قوله تعالى : لا يحزنهم الفزع الأكبر فيه أربعة أقوال : أحدها : أنه النفخة الأخيرة ، رواه العوفي عن ابن عباس ، والثاني : أنها إطباق النار على أهلها ، رواه ابن جبير عن ابن عباس ، والثالث : أنه ذبح الموت بين الجنة والنار ، قاله ابن جريج ، والرابع : أنه حين يؤمر بالعبد إلى النار ، قاله الحسن .

          قوله . وتتلقاهم الملائكة ، اختلفوا في محل التلقي على قولين : أحدهما : أنه إذا قاموا من قبورهم ، قاله مقاتل . والثاني : على أبواب الجنة ، قاله ابن السائب .

          قوله هذا يومكم الذي كنتم توعدون فيه إضمار : يقولون هذا يومكم الذي كنتم توعدون فيه الجنة .

          أين من يعمل لذلك اليوم ، أين المتيقظ من سنة النوم ، أين من يلحق بأولئك القوم ، جدوا في الصلاة وأخروا في الصوم ، وعادوا على النفوس بالتوبيخ واللوم ، ليتك إن لم تقدر على الإشمام لطريقتهم حصلت الروم .

          [ ص: 594 ] قوله تعالى : يوم نطوي السماء وذلك بمحو رسومها وتكدير نجومها وتكوير شمسها كطي السجل وفي السجل أربعة أقوال : أحدها : أنه ملك ، قاله علي بن أبي طالب ، وابن عمر ، والسدي .

          والثاني : كاتب كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس .

          والثالث : السجل بمعنى الرجل ، روي عن ابن عباس ، قال شيخنا أبو منصور اللغوي : وقد قيل : السجل بمعنى لغة الحبشة : الرجل .

          والرابع : أنها الصحيفة ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، والفراء ، وابن قتيبة .

          وقرأت على شيخنا أبي المنصور قال : قال أبو بكر بن دريد : السجل : الكتاب والله أعلم ، ولا ألتفت إلى قولهم أنه فارسي معرب .

          والمعنى : كما يطوى السجل على ما فيه من الكتاب . واللام بمعنى على . وقال بعض العلماء : المراد بالكتاب المكتوب ، فلما كان المكتوب ينطوي بانطواء الصحيفة جعل السجل كأنه يطوي الكتاب .

          ثم استأنف فقال : كما بدأنا أول خلق نعيده وفي معناه أربعة أقوال : أحدها : كما بدأناهم في بطون أمهاتهم حفاة عراة غرلا ، كذلك نعيدهم يوم القيامة .

          أخبرنا عبد الأول بسنده ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إنكم تحشرون حفاة عراة غرلا كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين " .

          أخرجاه في الصحيحين .

          والغرل : القلف ، يقال : هو أقلف وأغرل ، وأغلف بمعنى واحد .

          وفي بعض الأحاديث بهما ، ومعناه : سالمين من عاهات الدنيا وآفاتها ، لا جذام بهم ، ولا برص ، ولا عمى ، ولا غير ذلك من البلايا لكنهم يحشرون بأجساد مصححة لخلود الأبد ، إما في الجنة وإما في النار ، والبهم من قول العرب : أسود بهيم ، وكميت بهيم ، وأشقر بهيم : إذا كان لا يخالط لونه لون آخر ، فكذلك هؤلاء يبعثون معافين عافية لا يخالطها سقم .

          والثاني : أن المعنى : أنا نهلك كل شيء كما كان أول مرة ، رواه العوفي عن ابن عباس .

          [ ص: 595 ] والثالث : أن السماء تمطر أربعين يوما كمني الرجال ، فينبتون بالمطر في قبورهم كما ينبتون في بطون أمهاتهم . رواه أبو صالح عن ابن عباس .

          والقول الرابع : أن المعنى : قدرتنا على الإعادة كقدرتنا على الابتداء . قاله الزجاج .

          يا له من يوم ما أعجب أحواله ، وما أصعب أهواله ، وما أكثر أوحاله ، مريض طرده لا يرجى له ، ذكر القيامة أزعج المتقين وخوف العرض أقلق المذنبين ، ويوم الحساب أبكى العابدين ، وأرى قلبك عند ذكره لا يلين .

          أخبرنا محمد بن ناصر بسنده عن عبد الرحمن بن محمد المكاري عن موسى الجهني قال : سمعت عون بن عبد الله يقول : ويحي كيف أغفل ولا يغفل عني ، أم كيف تهنيني معيشتي واليوم الثقيل ورائي ، أم كيف لا يطول حزني ولا أدري ما فعل في ذنبي ، أم كيف أؤخر عملي ولا أعلم متى أجلي ، أم كيف يشتد عجبي بالدنيا وليست بداري ، أم كيف أجمع لها وفي غيرها قراري ، أم كيف تعظم رغبتي فيها والقليل منها يكفيني ، أم كيف آمن فيها ولا يدوم فيها حالي ، أم كيف يشتد حرصي عليها ولا ينفعني ما تركت منها بعدي ، أم كيف أؤثرها وقد ضرت من آثرها قبلي ، أم كيف لا أفك نفسي من قبل أن يغلق رهني .

          قال عبد الله بن الحسن بن عبد العزيز الجروي ، قال : حدثنا عبد الله بن يوسف الدمشقي ، قال : حدثنا محمد بن سليمان بن بلال ، أن أمه عثامة كف بصرها فدخل عليها ابنها يوما وقد صلى ، فقالت : أصليتم أي بني ؟ فقال : نعم . فقالت :


          عثام مالك لاهيه     حلت بدارك داهيه
          ابكي الصلاة لوقتها     إن كنت يوما باكيه
          وابكي القرآن إذا تلي     أن كنت يوما تاليه
          تتلينه بتفكر     ودموع عينك جاريه
          فاليوم لا تتلينه     إلا وعندك تاليه
          لهفي عليك صبابة     ما عشت طول حياتيه

          يا غافلا عن القيامة ستدري بمن تقع الندامة ، يا معرضا عن الاستقامة أين وجه السلامة ، يا مبنيا بالقدرة سينقض بناؤك ، ويا مستأنسا بداره ستخلو أوطانك ، يا كثير الخطايا سيخف ميزانك ، يا مشغولا بلهوه سينشر ديوانك ، يا أعجمي الفهم متى تفهم ، أتعادي النصيح وتوالي الأرقم ، وتؤثر على طاعة الله كسب درهم ، وتفرح بذنب عقوبته جهنم ، ستعلم حالك غدا ستعلم ، سترى من يبكي ومن يندم ، إذا جثا الخليل وتزلزل ابن [ ص: 596 ] مريم ، يا عاشق الدنيا كم مات متيم ، يا من إذا خطرت له معصية صمم ، ما فعلك فعل من يريد أن يسلم ، ما للفلاح علامة والله أعلم إن كان ثم عذر فقل وتكلم .

          أيها المثخن نفسه بجراحات الشباب ، حسبك ما قد مضى سودت الكتاب ، أبعد الشيب وعظ أو زجر أو عتاب ، هيهات تفرقت وصل الوصل وتقطعت الأسباب .


          حسبك ما قد مضى من اللعب     فتب إلى الله فعل مرتقب
          طواك مر السنين فاطو ثيات اللهو     واخلع جلابيب الطرب
          وتب فإن الجحيم تنتظر الأشيب     إن مات وهو لم يتب
          تظهر منها عليه أغلظ ما     تظهره للشباب من غضب

          السجع على قوله تعالى : كما بدأنا أول خلق نعيده .

          يا من لا يؤثر عنده وعده ووعيده ، ولا يزعجه تخويفه وتهديده ، يا مطلقا ستعقله بيده ، ثم يفنيه البلى ويبيده ، ثم ينفخ في الصور فيبتدأ تجديده كما بدأنا أول خلق نعيده .

          فرقنا بالموت ما جمعنا ، ومزقنا بالتلف ما ضيعنا ، فإذا نفخنا في الصور أسمعنا ، محكم الميعاد في الميعاد ونجيده كما بدأنا أول خلق نعيده .

          كم حسرة في يوم الحسرة ، وكم سكرة من أجل سكرة ، يوما قد جعل خمسين ألف سنة قدره ، كل ساعة فيه أشد من ساعة العسرة ، نبني فيه ما نقضناه ونشيده كما بدأنا أول خلق نعيده .

          قربنا الصالحين منا وأبعدنا العاصين عنا ، أحببنا في القدم وأبغضنا ، فمن قضينا عليه بالشقاء أهلكنا ، فهو أسير البعد وطريده ، ومن سبقت لهم منا الحسنى فنحن ننعم عليه ونفيده كما بدأنا أول خلق نعيده .

          يوم كله أهوال ، شغله لا كالأشغال ، يتقلقل فيه القلب والبال ، فتذهل عقول النساء والرجال ، ومن شدة ذلك الحال لا ينادي وليده .

          تجري العيون وابلا وطلا ، وترى العاصي يقلق ويتقلى ، ويتمنى العود فيقال : كلا ، [ ص: 597 ] والويل كل الويل لمن لا نريده . تخشع فيه الأملاك ، وتطير فيه الضحاك ، ويعز على المحبوس الفكاك ، فأما المؤمن التقي فذاك عبده .

          إخواني : ارجعوا بحسن النزوع والأوبة ، واغسلوا بمياه الدموع ماضي الحوبة ، وقد نصبنا للمذنب شرك التوبة ، أفترى اليوم تصيده .

          يا من لا يزال مطالبا مطلوبا ، يا من أصبح كل فعله محسوبا ، إن حركك الوعظ إلى التوبة صرت محبوبا ، وإن كان الشقا عليك مكتوبا فما ينفع ترديده .

          [ ص: 598 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية