الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          فلا تظلموا فيهن أنفسكم اختلفوا في هذه الكناية على قولين : أحدهما أنها تعود على الاثني عشر شهرا . قاله ابن عباس . فيكون المعنى : لا تجعلوا حرامها حلالا ولا حلالها حراما كفعل أهل النسيء . والثاني : أنها ترجع إلى الأربعة الحرم وهو قول قتادة والفراء واحتج بأن العرب تقول لما بين الثلاثة إلى العشرة : لثلاث خلون وأيام خلون . فإذا جازت العشرة قالوا : خلت ومضت . ويقولون لما بين الثلاثة إلى العشرة هن وهؤلاء فإذا جازت العشرة قالوا : هي وهذه ، إرادة أن يعرف اسم القليل من الكثير .

          وفي المراد بهذا الظلم قولان : أحدهما : أنه خص النهي عن الظلم بهذه الأشهر لأن شأن المعاصي يعظم فيه أشد من تعظيمه في غيرها لفضلها على ما سواها كما عظمت طاعة الحرم ومعصيته وإن كان العبد مأمورا بذلك في غيرها . هذا قول الأكثرين . والثاني : أن المراد بالظلم فيهن فعل النسيء قاله ابن إسحاق .

          [ ص: 428 ] واعلم أن تفضيل بعض الشهور على بعض ليكون الكف عن الهوى ذريعة إلى استدامة الكف في غيرها ، تدريجا للنفس إلى فراق مألوفها المكروه شرعا .

          فبادروا في هذا الشهر من الخير كل ممكن ما دام الأمر يمكن ، واعلموا أن العمر لا قيمة لأوقاته وزمان الصحة لا مثل لساعاته ، فحاسبوا أنفسكم قبل الحساب وأعدوا للسؤال صحيح الجواب ، واحفظوا بالتقوى هذه الأيام واغسلوا عن الإجرام قبيح الإجرام ، قبل ندم النفوس حين سياقها ، قبل طمس شمس الحياة بعد إشراقها ، قبل ذوق كأس مرة في مذاقها ، قبل أن تدور بدور السلامة في أفلاك محاقها ، قبل أن تجذب الأبدان إلى القبور بأطواقها ، وتفترش في اللحود أخلاق أخلاقها ، وتنفصل المفاصل بعد حسن اتساقها ، وتشتد شدة الحسرات حاسرة عن ساقها ، وتظهر مخبآت الدموع بسرعة اندلاقها ، وتتقلب القلوب في ضنك ضيق خناقها ، ويطول جزع من كان في عمره ناقها ، وتبكي النفوس في أسرها على زمان إطلاقها :


          ألا يا لقومي لحي ردي وللمرء يجهل ما في غد     وللميت جمع أمواله
          لآخر في الحي لم يجهد     سيلقيك أهلك والحاملون
          وأعضاء جسمك لم تبرد     ويصبح مالك للوارثين
          وأنت شقيت ولم تحمد



          هذا حادي الممات قد أسرع ، هذه سيوف الملمات قد تقطع ، هذه قصور الإخوان بلقع ، مال صاحب المال فإذا المال يوزع ، أنفعه حرصه حين سلب ما جمع أجمع ، إنما هذه الدنيا فخذ منها أو دع ، إن وصلت فعلى نية أن تقطع ، وإن بذلت فبعزيمة أن تمنع ، انتظر سلبها يا مشغولا بها ، وتوقع أسفا لكبد على حبها تتقطع ، أتراها أنها ما علمت أنها تخدع ، أفيها حيلة أم في وصلها مطمع ، أين كسرى أين قيصر أين تبع ، أين حاتم الجود أين من كان يجمع ، أين قيس وسحبان أين ابن المقفع ، إنها لتمحو العين ثم للأثر تقلع ، إن لك مقنعا في وعظها لو كفاك المقنع ، يا مفرقا في البلى قل لمن تجمع ، إذا خلوت وخليت فكيف تصنع ، أترى أنت عندنا أو ما تسمع ، يا أطروش الشقوة أما الحديث معك أما التخويف لك ، وا عجبا رجب الأصم أم أنت :


          أدمعي لفرقتكم     في انهمالها سحب
          مسمعي إذ عذلوا     في صبابتي رجب
          من مبلغ قومي على قربهم     وبعد أسماع من الواعظين
          هبوا فقد طالت بكم نومة     وانتبهوا من رقدة الغافلين
          [ ص: 429 ] حثوا مطايا الجد ترفل بكم     ناجين في الناجين أو معذرين
          سلوا قباب الملك عن معشر     كانوا لها من قبلكم مبتنين
          تخبركم عن زمن لم يزل     يحدو لقوم مضوا لاعبين
          قد شاخ جد الناس في باطل     وضربوا في غمرة حائرين
          وأطبق الشر على جمعهم     ودق شخص الحق في العالمين
          وركضوا في الجور ركضا فما     تحسبهم تقوى حياء ودين
          تسرهم خضراء دنياهم     قد أمنوا الدهر وبئس القرين
          فإن يكونوا من أناس دروا فإنني     كنت من الناصحين
          معذرة مني إلى حاضر     وأثر في صحف الغابرين
          يا عجبا من ناصح لم يطع     كم حازم قد ضاع في الجاهلين



          لله در قوم فهموا من الوجود ، وتأملوا المقصود واشتغلوا بطاعة المعبود ، وانتبهوا والخلق رقود ، يصفون الأقدام يناجون الملك العلام ويصفون الهمم ، ويصفون تقصيرهم ويصفون الشكر للنعم ، تحملوا تعب السهر وكابدوا مشقة الظمأ ، وأخلصوا العمل فزاد عملهم ونما ، وجرى القدر فرضوا ولم يعترضوا بلم ولما ، فيا حسن مجتهدهم يذكر الذنب فيبكي ندما .

          إخواني : اسلكوا جادة القوم لعل مشاعلهم تلوح لكم ، تعلقوا بغبارهم لعل الحادي ينوه بكم ، صوتوا بالقوم عسى يقف بعض الساقة لكم ، ابكوا على تأخركم لعل عطف الرحمة تنعطف نحوكم .


          أومض لي على الغوير بارق     فهاج من وميضه التأسف
          لهفي على عيش مضى برامة     أورد مشتاقا به تلهف
          يا مالكي رق المحب قسما     عليكم بحبه تعطفوا
          ويا حداة الظعن قد أسلمني     إلى الضنا فراقكم لي فقفوا
          لعلني أن أشتفي بنظرة     يبل منها المستهام المدنف
          ففي الضلوع جمرة ما تنطفي     وفي الشؤون عبرة ما تنزف



          إخواني : كأنكم بالحافظ الذي حرسكم وقد حصدكم بعد أن غرسكم ، وبعث الموت فسيب فرسكم وفرسكم ، فلينوا إلى التقى في هذه الأشهر وخلوا شرسكم فلا تظلموا فيهن أنفسكم .

          [ ص: 430 ] هذه أوقات معظمة وساعات مكرمة وقد صيرتم ضحاها بالذنوب عتمة ، فبيضوا بالتوبة صحفكم المظلمة ، فالملك يكتب خطاكم ونفسكم فلا تظلموا فيهن أنفسكم .

          لقد ضيعتم معظم السنة فدعوا من الآن هذه السنة ، واسمعوا المواعظ فقد نطقت بألسنة ، ودعوا الخطايا فيكفي ما قد وكسكم فلا تظلموا فيهن أنفسكم .

          البدار البدار قبل الفوت ، الحذار الحذار فقد قرب الموت ، اليقظة اليقظة فقد أسمع الصوت ، قبل أن يضيق الحساب محبسكم فلا تظلموا فيهن أنفسكم . لا بد أن تنطق الجوارح وتشهد عليكم بالقبائح ، فاملؤوا الأوقات بالعمل الصالح ، فإنكم إذا نزلتم بطون الصفائح آنسكم فلا تظلموا فيهن أنفسكم .

          اعزموا اليوم على ترك الذنوب ، واجتهدوا في إزالة العيوب ، واحذروا سخط علام الغيوب ، واكتبوا على صفحات القلوب مجلسكم فلا تظلموا فيهن أنفسكم .

          [ ص: 431 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية