الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          ( سجع على قوله تعالى ) :

          الذين ينفقون في السراء والضراء أي في العسر واليسر

          صدقوا في المحبة والولاء ، وصبروا على نزول البلاء ، وقاموا في دياجي الظلماء ، يشكرون على سوابغ النعماء ، فجرت دموع جفونهم جريان الماء ، فأربحهم في المعاملة رب السماء ، ينفقون في السراء والضراء . [ ص: 44 ]

          بذلوا المال ومالوا إلى السخاء ، وطرقوا باب الفضل بأنامل الرجاء وتلمحوا وعد الصادق بجزيل العطاء ، وتأهبوا للحضور يوم اللقاء ، وقدموا الأموال ثقة بالجزاء ينفقون في السراء والضراء .

          أناخوا بباب الطبيب طلبا للشفاء ، وصبروا رجاء العافية على شرب الدواء ، فإن ابتلوا صبروا ، وإن أعطوا شكروا ، فالأمر على السواء ، تالله لقد شغلهم حبه عن الآباء والأبناء ، ولقد عاملوه بإيثار المساكين والفقراء الذين ينفقون في السراء والضراء .

          قوله تعالى : والكاظمين الغيظ الكظم : الإمساك على ما في النفس .

          أخبرنا أحمد ، حدثني أبي ، حدثنا عبد الله بن يزيد ، حدثنا سعيد يعني ابن أبي أيوب ، حدثني أبو مرحوم ، عن ابن الحصين ، قال أنبأنا ابن المذهب ، قال ابن مالك ، حدثنا عبد الله بن سهل بن معاذ عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله تعالى يوم القيامة على رؤوس الخلائق ثم يخير أي الحور العين شاء .

          قال أحمد : حدثنا علي بن عاصم ، عن يونس بن عبيد ، عن الحسن ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما تجرع عبد جرعة أفضل عند الله من جرعة غيظ يكظمها ابتغاء وجه الله تعالى .

          قوله تعالى : والعافين عن الناس

          روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا " .

          وقال علي رضي الله عنه : إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكرا للقدرة عليه .

          وشتم رجل عمر بن ذر فقال : لا تفرطن في شتمنا ، ودع للصلح موضعا ، فإنا لا نكافئ من عصى الله فينا إلا أن نطيع الله فيه ، وشتم رجل الشعبي فجعل يقول : أنت كذا وأنت كذا ، فقال الشعبي : إن كنت صادقا فغفر الله لي ، وإن كنت كاذبا فغفر الله لك . [ ص: 45 ]

          وأتي عمر بن عبد العزيز برجل كان قد نذر إن أمكنه الله منه ليفعلن به وليفعلن ، فقال له رجاء بن حيوة : قد فعل الله ما تحب من الظفر فافعل ما يحب من العفو .

          وأغلظ رجل لعمر بن عبد العزيز ، فأطرق طويلا ثم قال : أردت أن يستفزني الشيطان بعز السلطان فأنال منك اليوم ما تناله مني غدا .

          وقال له رجل وهو على المنبر : أشهد أنك من الفاسقين ، فقال : لا أجيز شهادتك .

          وقيل للفضيل بن مروان : إن فلانا يشتمك ، فقال : لأغيظن من أمره ، يغفر الله لنا وله ، قيل له : ومن أمره ؟ قال الشيطان .

          قوله تعالى والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله .

          الفاحشة : القبيحة ، وهي الكبائر ، والاستغفار يمحو أثر الذنوب .

          أسفا لعبد كلما كثرت أوزاره قل استغفاره ، وكلما قرب من القبور قوي عنده الفتور .


          يا مدمن الذنب أما تستحي الله في الخلوة ثانيكا     غرك من ربك إمهاله
          وستره طول مساويكا

          إخواني : إنكم مخلوقون اقتدارا ، ومربوبون اقتسارا ، ومضمنون أجداثا ، وكائنون رفاتا ومبعوثون أفرادا ، فاتقوا الله تقية من شمر تجريدا وجد تشميرا ؛ ونظر في المآل وعاقبة المصير ، ومغبة المرجع ، وكفى بالجنة نوالا وبالنار نكالا .

          فرحم الله عبدا اقترف فاعترف ، ووجل فعمل ، وحاذر فبادر ، وعمر فاعتبر ، وأجاب فأناب ، وراجع فتاب ، وتزود لرحيله وتأهب لسبيله .

          فهل ينتظر أهل غضاضة الشباب إلا الهرم ، وأهل بضاعة الصحة إلا السقم ، وأهل طول البقاء إلا مفاجأة الفناء واقتراب الفوت ونزول الموت ، وأزف الانتقال وإشفاء الزوال ، وحفز الأنين ، وعرق الجبين ، وامتداد العرنين ، وعظم القلق وقبض الرمق .

          جعلنا الله وإياكم ممن أفاق لنفسه وفاق بالتحفظ أبناء جنسه ، وأعد عدة تصلح لرمسه ، واستدرك في يومه ما مضى من أمسه ، قبل ظهور العجائب ومشيب الذوائب ، وقدوم الغائب وزم الركائب ، إنه سميع الدعاء . [ ص: 46 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية