الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              جماع أبواب إنكاح الأولياء

                                                                                                                                                                              ذكر إبطال النكاح بغير ولي

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: ثبتت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا نكاح إلا بولي " .

                                                                                                                                                                              7176 - حدثنا علي بن عبد العزيز قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا عبد الرحمن، عن إسرائيل قال: حدثنا أبو إسحاق، عن أبي بردة، عن أبيه، وحدثنا علي قال: حدثنا أبو غسان قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا نكاح إلا بولي " .

                                                                                                                                                                              7177 - حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، عن عبد الرزاق ، عن ابن جريج قال: أخبرني سليمان بن موسى: أن ابن شهاب أخبره، عن عروة بن الزبير أخبره، أن عائشة أخبرته: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أيما امرأة نكحت بغير إذن - وليها أو مواليها - فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، ولها مهرها مما أصاب منها فإن السلطان ولي من لا ولي له " . [ ص: 260 ]

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: أما خبر أبي موسى الأشعري فهو ثابت، وأما خبر عائشة فقد تكلم فيه الناس فثبتته فرقة، وقالت بظاهره فرقة، ولم تكن عندهم علة يدفعونه بها، وعللت فرقة خبر سليمان بن موسى بثلاث علل: أحدها أن الزهري أفتى بخلافه، ولو كان الخبر عند الزهري ثابتا ما استجاز أن يفتي بخلاف خبر ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                              7178 - حدثني إسحاق، عن عبد الرزاق ، عن معمر قال: سألت الزهري عن الرجل يزوج بغير ولي فقال: إن كان كفؤا لم يفرق بينهما .

                                                                                                                                                                              والعلة الثانية: [ ص: 261 ] .

                                                                                                                                                                              7179 - حدثنيه علي، عن أبي عبيد قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن ابن جريج ، عن سليمان بن موسى، عن الزهري . وذكر الحديث .

                                                                                                                                                                              قال: وزادني آخره شيئا ما لدى أحد يذكره غيره قال: قال ابن جريج : ثم لقيت الزهري فذكرت ذلك له فلم يعرفه .

                                                                                                                                                                              وأما العلة الثالثة: فإنها رواية حديث الزمارة، عن نافع ، عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ووقف سائر من روى هذا الحديث عن نافع ، فقالوا: عن ابن عمر موقوفا، سمعت موسى بن هارون يعتل في تركه إثبات حديث سليمان هذه العلة، ويستعظم أن ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه يسمع منكرا فيعدل عن الطريق ولا يغيره . [ ص: 262 ]

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: وقد أجاب عن بعض هذه العلل بعض أهل الحديث فقال: يحتمل أن يكون شبه عليه هذا الكلام، لأن أحدا لم يأت به غيره، لأن الناس قد حدثوا بهذا الحديث عن ابن جريج ، ولم يذكر هذا الكلام غيره، ويجوز أن يكون الزهري حدث ثم نسيه، كما نسي سهيل حديثه في اليمين مع الشاهد، فكان يحدث به بعد عن ربيعة عن نفسه، وهذا [ ص: 263 ] موجود، وإذا جاز أن يكون الزهري حدث به ثم نسيه، فسئل عنه فأنكره وأفتى بخلافه، لأن الناس قد تفعل ذلك .

                                                                                                                                                                              وقد اختلف أهل العلم في النكاح بغير الولي، فقال كثير من أهل العلم: لا نكاح إلا بولي. وروي هذا القول عن عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما وعبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن عباس ، وأبي هريرة .

                                                                                                                                                                              7180 - حدثنا حاتم بن منصور : أن الحميدي حدثهم قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن أسامة بن زيد، عن بكير بن عبد الله بن الأشج ، عن سعيد بن المسيب ، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لا نكاح إلا بولي .

                                                                                                                                                                              7181 - حدثنا إسحاق، عن عبد الرزاق ، عن ابن جريج قال: أخبرني عبد الحميد بن [جبير] ، أن عكرمة بن خالد أخبره، أن الطريق جمعت ركبا، فجعلت امرأة ثيب أمرها إلى رجل من القوم غير ولي، فأنكحها رجلا، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه فجلد الناكح والمنكح ورد نكاحها . [ ص: 264 ]

                                                                                                                                                                              7182 - حدثنا إسحاق، عن عبد الرزاق ، عن قيس بن الربيع ، عن عاصم بن بهدلة ، عن زر، عن علي قال: لا نكاح إلا بإذن ولي .

                                                                                                                                                                              7183 - حدثنا علي بن الحسن قال: حدثنا عبد الله، عن سفيان قال: حدثني عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لا نكاح إلا بولي مرشد أو سلطان .

                                                                                                                                                                              7184 - حدثنا إسحاق، عن عبد الرزاق ، عن هشيم، عن المجالد، عن الشعبي أن عمر وعليا وابن مسعود وشريحا كانوا لا يجيزون النكاح إلا بولي . [ ص: 265 ]

                                                                                                                                                                              وبه قال سعيد بن المسيب والحسن البصري ، وعمر بن عبد العزيز ، وجابر بن زيد، وقتادة، وسفيان الثوري ، وابن أبي ليلى ، وابن شبرمة ، وابن المبارك، والشافعي رحمه الله ، وعبيد الله بن الحسن ، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه ، والقاسم بن سلام .

                                                                                                                                                                              وفيه قول ثان: وهو أن الولي أو السلطان إذا أجازه جاز، وإن [عقد] بغير ولي، روي هذا القول عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وابن سيرين ، والقاسم بن محمد . [ ص: 266 ]

                                                                                                                                                                              7185 - حدثنا إسحاق، عن عبد الرزاق ، عن الثوري، عن أبي قيس، عن هزيل أن امرأة زوجتها أمها وخالها فأجاز علي نكاحها .

                                                                                                                                                                              وبه قال الحسن بن صالح، وإسحاق بن راهويه ، واعتل إسحاق بحديث علي، وقال أبو يوسف : هو موقوف فإن رجع إلى الحاكم وهو كفؤ أجزت ذلك، كأن القاضي هاهنا ولى، وبلغه أن ابنته تزوجت فأجاز ذلك. وقد بلغني عن مالك أنه قال: يفرق بينها وبين زوجها، دخل بها أو لم يدخل بها إذا زوجها غير ولي إلا أن يجيز ذلك الولي أو السلطان .

                                                                                                                                                                              وفيه قول ثالث: وهو أنها إذا تزوجت بغير إذن وليها كفؤا فهو جائز، كذلك قال الشعبي والزهري .

                                                                                                                                                                              وفيه قول رابع: وهو أن المعتقة أو المسكينة تكون في القرية التي لا سلطان فيها، أو في الموضع الذي فيه السلطان فتكون ممن لا خطب لها فلا بأس إذا كان هكذا أن تستخلف على نفسها من يزوجها ويجوز [ ص: 267 ] ذلك، وكذلك الجارية يكفلها الرجل من الأعراب أن تزويجه عنها جائز، فإن كل امرأة لها قدر وغنى، فإن تلك لا ينبغي أن يزوجها إلا الأولياء أو السلطان. هذا قول مالك بن أنس .

                                                                                                                                                                              وفيه قول خامس: وهو أن البكر أو الثيب إذا زوجت نفسها بشهادة شاهدين، وهو كفؤ لها فهو جائز، وقال: ألا ترى أنهما يتوارثان لأن النكاح قد لزمها، فإن كان قصر بها في المهر، فإن للولي أن يلحق بها مثل مهر نسائها، ويخاصم الزوج في ذلك حتى يكمله لها أو يفرق بينهما. هذا قول النعمان . وقال محمد : إن تزوجت بغير أمر الولي فالنكاح موقوف حتى يجيزه الولي أو القاضي .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: أما تفريق مالك بين المولاة والمسكينة، وبين من لها منهن قدر وغنى، فليس ذلك مما يجوز أن يفرق به، إذ قد جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس جميعا فقال: "لا نكاح إلا بولي "، ولما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون تكافأ دماؤهم " فسوى بين الجميع في الدماء، وجب أن يكون حكمهم فيما دون الدماء سواء، وأما ما قاله النعمان فمخالف للسنة خارج عن قول عوام أهل العلم، وما قاله صاحبه فخبر [ ص: 268 ] الزهري ، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها يدل على خلافه، وهو قوله: "فنكاحها باطل " ولا يجوز أن يصير الباطل حقا إلا بتجديد عقد، فلا يصح بإجازة، والذي نقول به القول الأول، وذلك لقول الله - جل ذكره - : ( وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ) ، يقال: إن هذه الآية نزلت في معقل بن يسار .

                                                                                                                                                                              7186 - حدثنا إبراهيم بن مرزوق قال: حدثنا أبو عاصم، عن مبارك، عن الحسن، أن معقل بن يسار زوج أختا له من رجل فطلقها واحدة، ثم تركها حتى انقضت عدتها، فأرادت المرأة أن ترجع إلى زوجها، فأراد الرجل أن يتزوجها فأبى معقل، وقال: أكرمتك بها، فأنزل الله عز وجل: ( فلا تعضلوهن ) الآية، فقال معقل: سمع وطاعة، فقال: حتى أنكحك. وقال الله - جل وعز - : ( فانكحوهن بإذن أهلهن ) ، وقال: ( وأنكحوا الأيامى منكم ) .

                                                                                                                                                                              والأخبار الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولا نعلم أن أحدا من أصحاب رسول الله ثبت عنه خلاف ما قلنا، وإذا ثبت الشيء بكتاب الله وسنن رسول الله لم يجز تركه لشيء .

                                                                                                                                                                              واختلفوا في الولي. فقالت طائفة: الأولياء العصبة. كذلك قال [ ص: 269 ] مالك بن أنس ، والليث بن سعد ، وسفيان بن سعيد الثوري، والشافعي رحمه الله وكان أبو ثور يقول: والنكاح لا يكون إلا بولي، إما عصبة وإما رجل توليه أمرها، ولما اختلفوا أن كل من لزمه اسم ولي جائز، وفي كتاب محمد بن الحسن : وإذا تزوجته المرأة، فولت أمرها رجلا من المسلمين، فزوجها كفؤا فهو جائز، وذلك بمنزلة تزويجها نفسها، وكذلك لو زوجها امرأة أو عبد فأجازت ذلك كان جائزا .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: في قوله: ( ولا تعضلوهن ) دليل على أن الأولياء من العصبة، ولو كان الأمر إليهن لأشبه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأخت معقل حين أبى معقل أن يزوجها: لا يمنعك من النكاح امتناع أخيك، فإنما الأمر إليك. فلما دعا معقلا وتلا عليه الآية، دل على أن الذي [ ص: 270 ] إليه الأمر العصبة، ولو كان الأمر إليها لم يكن في قوله: والسلطان ولي من لا ولي له فائدة، لأن كل امرأة إلا وهي تجد السبيل إلى أن تأمر من يزوجها .

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية