الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              ذكر اختلاف أهل العلم في الوصية هل تجب فرضا أم لا؟

                                                                                                                                                                              قال الله عز وجل: ( كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا ) الآية .

                                                                                                                                                                              فمعنى قوله: خيرا، يعني: مالا. وروينا ذلك عن ابن عباس .

                                                                                                                                                                              7002 - حدثنا علان بن المغيرة قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثنا معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي [طلحة ] عن ابن عباس في قوله: ( إن ترك خيرا ) يعني: مالا. وبه قال مجاهد، وعكرمة والضحاك. قال عكرمة: قوله: ( حب الخير ) : حب المال .

                                                                                                                                                                              وقال الضحاك في قوله: ( إني أراكم بخير ) قال: الغنى. وقد أجمع أهل العلم على أن الوصية غير واجبة على من لم يدع مالا ولا شيئا مما يملك .

                                                                                                                                                                              واختلفوا في وجوب الوصية على من خلف مالا: فقالت طائفة: الوصية واجبة على ظاهر هذه الآية. كان الزهري يقول: جعل الله الوصية حقا مما قل منه أو كثر .

                                                                                                                                                                              وقالت طائفة: الوصية ليست بواجبة كان المريض موسرا أو فقيرا .

                                                                                                                                                                              كان النخعي يقول: إن أوصى فحسن، وإن لم يوص فلا بأس، مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يوص، ومات أبو بكر وما وصى . [ ص: 12 ]

                                                                                                                                                                              وروينا عن الشعبي أنه قال: ليست الوصية بواجبة .

                                                                                                                                                                              وقال الثوري : إن شاء أوصى، وإن شاء لم يوص، وإن كان موسرا ليست الوصية بواجبة .

                                                                                                                                                                              وقال الشافعي رحمه الله: قوله "ما حق امرئ" يحتمل ما الحزم، وما يحتمل المعروف في الأخلاق إلا هذا، لا من وجه الفرض .

                                                                                                                                                                              وقالت طائفة: ليست الوصية بواجبة إلا على رجل عليه دين أو عنده مال لقوم، فيجب عليه أن يكتب وصيته، ويخبر بما عليه، فأما من لم يكن عليه دين ولا عنده وديعة، فليس بواجب عليه أن يوصي إلا أن يشاء، والله أعلم. هذا قول أبي ثور، وقد احتج لأبي ثور بعض أصحابه فقال: قال الله - جل ذكره - : ( يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا ) الآية، وغير موقى لنفسه من وجب لله عليه أو لآدمي قبله تبعة في مال لا يعلم به غيره، فترك الخروج مما يجب عليه والإخبار به والتقدم فيه، وهو على ذلك قادر، فقد عصى إذ ترك أن يقي نفسه . [ ص: 13 ]

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : قول أبي ثور أحسن ما قيل في هذا الباب، وذلك لأن الله - جل ذكره - فرض أداء الأمانات إلى أهلها، فقال - جل ذكره - : ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ) فأداء الأمانات إلى جميع الناس البر منهم والفاجر فرض، فأما من لا أمانة قبله، ولا حق عليه لأحد، فليس بواجب عليه أن يوصي، ويدل على صحة ما قلناه قوله: "ما حق امرئ له مال يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده " إذ لو كانت الوصية واجبة لم يجعل ذلك إلى إرادة الذي يريد الوصية، ولكان ذلك لازما على كل حال، ويدل على أن الوصية ليست بواجبة ترك ابن عمر أن يوصي. قال نافع : ذكر الوصية لابن عمر في مرضه فقال: أما مالي فالله أعلم ما كنت أفعل فيه، وأما رباعي وأرضي فلأني لا أحب أن يشارك ولدي فيها أحد .

                                                                                                                                                                              7003 - حدثنا موسى بن هارون قال: حدثنا أبو الربيع قال: حدثنا حماد قال: حدثنا أيوب، عن نافع قال: ذكرت الوصية لابن عمر في مرضه فقال: ... وذكر الحديث . [ ص: 14 ]

                                                                                                                                                                              وقد ذكرنا فيما مضى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك مالا فيوصي فيه، وقد أوصى بكتاب الله وبالصلاة، وقال في خطبته بعرفة يودع بذلك أمته: "وقد تركت فيكم ما لن تضلوا إن اعتصمتم به: كتاب الله". ومعنى قول عائشة وابن أبي أوفى أنه لم يوص يعنيان في ثلثه بشيء، ولا يتوهم مسلم أن أحدا كان له قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء فلم يخرج منه بل لا يعتقد ذلك إلا كافر، وقد روينا عن الأوائل أخبارا تدل على أن الاختيار لمن يترك مالا قليلا ترك الوصية وإبقاء المال على الورثة .

                                                                                                                                                                              روينا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه دخل على رجل من بني هاشم يعوده وله ثمانمائة درهم، وهو يريد أن يوصي. فقال له علي: لا، إنما قال الله: ( إن ترك خيرا ) وإنك لم تدع خيرا توصي فيه .

                                                                                                                                                                              وروينا عن ابن عباس أنه قال: إذا ترك الميت سبعمائة درهم فلا يوصي .

                                                                                                                                                                              وقالت عائشة - رحمها الله - لرجل أراد أن يوصي: كم مالك؟ قال: ثلاثة آلاف. قالت: فكم عيالك؟ قال: أربعة. قالت: إن الله يقول ( إن ترك خيرا ) وإن هذا شيء يسير فدعه لعيالك فإنه أفضل .

                                                                                                                                                                              وقال ابن عباس : من لم يترك ستين دينارا لم يترك خيرا .

                                                                                                                                                                              7004 - حدثنا موسى بن هارون قال: حدثنا عبد الأعلى قال: حدثنا وهيب بن خالد قال: حدثنا هشام بن عروة ، عن أبيه، أن علي بن أبي طالب - رحمة الله عليه - دخل على رجل من بني هاشم يعوده وله ثمانمائة درهم، وهو يريد أن يوصي. فقال له علي: لا، إنما قال الله عز وجل: ( إن ترك خيرا ) وأنت لم تدع خيرا توصي فيه . [ ص: 15 ]

                                                                                                                                                                              7005 - حدثنا محمد بن علي قال: حدثنا سعيد بن منصور قال: حدثنا عبد الله بن المبارك قال: أخبرنا ابن جريج ، عن ليث، عن طاوس، عن ابن عباس قال: إذا ترك الميت سبعمائة درهم فلا يوصي .

                                                                                                                                                                              7006 - حدثنا موسى قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا أبو معاوية، عن محمد بن شريك، عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لها رجل: إني أريد أن أوصي [قالت] : كم مالك؟ قال: ثلاثة آلاف. قالت: فكم عيالك؟ قال: أربعة. قالت: إن الله عز وجل يقول: ( إن ترك خيرا ) وإن هذا شيء يسير فدعه لعيالك فإنه أفضل . [ ص: 16 ]

                                                                                                                                                                              7007 - حدثنا محمد بن أحمد قال: حدثنا نصر بن سيار قال: حدثنا عبد بن حميد قال: حدثنا إبراهيم - يعني ابن الحكم بن أبان - عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عباس ( إن ترك خيرا ) قال: فمن لم يترك ستين دينارا لم يترك خيرا .

                                                                                                                                                                              وقال قتادة في قوله: ( إن ترك خيرا ) قال: ألفا يعني: ألف درهم فما فوقه .

                                                                                                                                                                              وكان إسحاق يقول: إذا لم يملك قليلا أو كثيرا وعظ أهله وأوصاهم بتقوى الله وطاعته، وأن لا يأتوا محرما بعد موته من النياحة والبكاء وما أشبه ذلك، وذكر حديث ابن أبي أوفى أوصى بكتاب الله .

                                                                                                                                                                              وكان الشعبي يقول: الوصية تمام لما ترك من الصدقة .

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية