الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              جماع أبواب شروط النكاح

                                                                                                                                                                              اختلف أهل العلم في الرجل ينكح المرأة شرط لها أن لا يخرجها من دارها، ولا يتزوج عليها، ولا يتسرى، ونحو هذا من الشروط، فروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أنه قال في رجل تزوج امرأة وشرط لها دارها .

                                                                                                                                                                              فقال: شرط الله - عز وجل - قبل شرطهم لم يره شيئا .

                                                                                                                                                                              7284 - حدثنا إسحاق ، عن عبد الرزاق ، عن ابن عيينة ، عن ابن أبي ليلى ، عن المنهال، عن عباد بن عبد الله، عن علي قال: رفع إليه رجل تزوج امرأة وشرط لها دارها. فقال: شرط الله قبل شرطهم، لم يره شيئا .

                                                                                                                                                                              7285 - حدثنا محمد بن علي قال: حدثنا سعيد قال: حدثنا عبد الله بن وهب قال: أخبرني عمرو بن الحارث ، عن كثير بن فرقد، عن سعيد بن عبيد بن السباق، أن رجلا تزوج امرأة على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وشرط لها أن لا يخرجها، فوضع عنه عمر بن الخطاب وقال: المرأة مع زوجها .

                                                                                                                                                                              وممن هذا مذهبه عطاء ، والشعبي ، والزهري ، وقتادة ، وسعيد بن المسيب ، والحسن ، وعبد الرحمن بن أذينة، وإياس بن معاوية، [ ص: 408 ] وهشام بن هبيرة، ومحمد بن سيرين ، والنخعي ، وسفيان الثوري ، والليث بن سعد ، ومالك بن أنس ، والشافعي رحمه الله وأصحاب الرأي .

                                                                                                                                                                              وقال النخعي : كل شرط في نكاح فإن النكاح يهدمه إلا الطلاق .

                                                                                                                                                                              وقال عطاء : إذا شرط أنك لا تنكح، ولا تتسرى، ولا تذهب، ولا تخرج بها، يذهب الشرط إذا نكحها، وهذا مذهب الثوري، ومالك ، والشافعي رحمه الله وقال الشافعي رحمه الله: إن كان انتقصها بالشرط شيئا من مهر مثلها، فلها مهر مثلها. وقال أبو عبيد : إذا شرط أن لا يخرجها قال: يأمره بتقوى الله عز وجل والوفاء بالشرط، ولا يحكم عليه بذلك حكما .

                                                                                                                                                                              وألزمت طائفة هذه الشروط، وأمرت بالوفاء بها. روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه اختصم إليه في امرأة شرط لها زوجها أن لا يخرجها من دارها، فقال عمر رضي الله عنه: لها شرطها .

                                                                                                                                                                              وقال عمرو بن العاص : أرى أن يفي لها بشرطها .

                                                                                                                                                                              7286 - حدثنا إسحاق ، عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن أيوب ، عن إسماعيل بن عبيد الله، عن عبد الرحمن بن غنم قال: شهدت عمر بن الخطاب رضي الله عنه [ ص: 409 ] ، واختصم إليه في امرأة شرط لها زوجها أن لا يخرجها من دارها. فقال عمر رضي الله عنه: لها شرطها. فقال رجل: لئن كان هذا لا تشاء امرأة تفارق زوجها إلا فارقته. وقال عمر: المسلمون على شروطهم عند مقاطع حقوقهم .

                                                                                                                                                                              7287 - حدثنا إسحاق ، عن عبد الرزاق ، عن ابن جريج والثوري ، أن عبد الكريم أخبرهما، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود قال: أتي معاوية في امرأة شرط لها زوجها أن لها دارها، فسأل عمرو بن العاص فقال: أرى أن يفي لها بشرطها .

                                                                                                                                                                              وهذا مذهب جابر بن [زيد ] ، وطاوس ، وبه قال الأوزاعي ، وأحمد، وإسحاق . قال إسحاق : يقول عمر: مقاطع الحقوق عند الشروط، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج " . [ ص: 410 ]

                                                                                                                                                                              7288 - حدثنا علان بن المغيرة قال: حدثنا سعيد بن أبي مريم قال: حدثنا يحيى بن أيوب والليث بن سعد ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج " .

                                                                                                                                                                              وكان عطاء يقول: إن نكح امرأة وشرطت عليه إنك إن نكحت أو تسريت أو خرجت بي فإن لي عليك كذا وكذا من المال؟ قال: فإن نكح فلها ذلك المال عليه، قال: هو من صداقها .

                                                                                                                                                                              وقال الزهري : هو زيادة في صداقها .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : أصح ذلك قول من أبطل الشرط وأثبت النكاح، وذلك للثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في قصة بريرة حيث شرطوا على عائشة رضي الله عنها الولاء فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم الشرط. وقال: "ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط" .

                                                                                                                                                                              فلما أبطل النبي صلى الله عليه وسلم من الشروط ما ليس في كتاب الله، كان اشتراط من اشترط شروطا خلاف كتاب الله أولى أن يبطل من ذلك، وذلك أن الله - جل ذكره - أباح للرجل أن ينكح أربعا فقال: جل ذكره - : ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء ) الآية، ومن ذلك أن الله - جل ثناؤه - أباح للمرء وطء [ ص: 411 ] ما ملكت يمينه فقال - جل ذكره - : ( والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم ) . فإذا شرطت الزوجة تحريم ما أحل الله له أبطل ذلك الشرط وأثبت النكاح. وجاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المسلمون عند شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا " .

                                                                                                                                                                              ولما كان للمرء إذا عقد نكاح امرأة أن ينقلها حيث يصلح أن ينقل مثلها إليه ويسافر بها، كان اشتراطها عليه دارها خلاف أحكام المسلمين في أزواجهم، وكان ذلك غير لازم للزوج، غير أن الزوج إن كان نقصها من مهر مثلها لاشتراطها بعض هذه الشروط عليه وجب أن يوفي مهر مثلها .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : والجواب في اشتراط الزوجين كل واحد منهما على صاحبه أن لا ينكح بعده فالجواب فيما مضى من هذه المسائل، وقد روي أن عبد الله بن أبي بكر جعل لامرأته عاتكة أرضا على أن لا تزوج بعده، فلما مات تزوجها عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأرسلت إليها عائشة رضي الله عنها: أن ردي علينا أرضنا . [ ص: 412 ]

                                                                                                                                                                              7289 - حدثنا يحيى قال: حدثنا مسدد قال: حدثنا حماد بن زيد ، عن خالد بن سلمة أن عبد الله بن أبي بكر جعل لامرأته عاتكة أرضا على أن لا تزوج بعده، فلما مات تزوجها عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأرسلت إليها عائشة رضي الله عنها: أن ردي علينا أرضنا .

                                                                                                                                                                              وممن مذهبه إبطال هذه الشروط سفيان الثوري ، والشافعي رحمه الله والمزني ، وأصحاب الرأي .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : فأما معنى قوله: "إن أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج " فقد يحتمل أن يكون معناه المهور التي أجمع أهل العلم (على أن) الزوج الوفاء بها، ويحتمل أن يكون أريد ما يشترط على الناكح في عقد النكاح، وعلى ما أمر الله من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، وإذا احتمل الحديث معان ، كان ما وافق ظاهر كتاب الله، وسائر سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى، فقد أبطل النبي صلى الله عليه وسلم كل شرط ليس في كتاب الله، وهذا أولى معنييه، والله أعلم . [ ص: 413 ]

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية