الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              باب ذكر الوصية بالغلة والخدمة:

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: وإذا أوصى الرجل بخدمة عبده لرجل سنة، وليس له مال غيره. فقالت طائفة: الورثة بالخيار، إن أحبوا أن يسلموا خدمته سنة ثم يرجع إليهم العبد، وإلا أسلموا إليه ثلث الميت بتلا [ ص: 105 ] هذا قول مالك، ابن القاسم عنه، قيل لابن القاسم : وكذلك لو أوصى رجل بسكنى دار سنة قال: هذا وخدمة العبد سواء، وكذلك قال مالك، إما أن سلموا له سكنى سنة، وإما قطعوا بثلث الميت وهو مخالف له إذا أوصى برقبة العبد أو الدار إذا لم يحمل الثلث قطع لهم فيه، فإذا كان خدمة أو سكنى، ولم يجز له قطع ثلث الميت. وهذا قول مالك .

                                                                                                                                                                              وفيه قول ثان: وهو إن كان الثلث يحمل العبد فكذلك جائز، وإن لم يحمل الثلث العبد جاز منه ما حمل الثلث ورد ما لم يحمل، هذا قول الشافعي رحمه الله .

                                                                                                                                                                              وقال أبو ثور : إذا أوصى رجل بخدمة عبده لرجل سنة، وليس له مال غيره فإنه يخدم الموصى له يوما، والورثة يومين، حتى يستكمل الموصى له سنة، فإن أراد الورثة بيع العبد على هذا المعنى. وإذا أوصى له بسكنى دار له سنة ولا مال له غيرها فأجاز الورثة، كان ذلك جائزا، أو إن أبوا كان له أن يسكن ثلث الدار سنة .

                                                                                                                                                                              وقال أصحاب الرأي في خدمة العبد كقول أبي ثور، وقال: إذا أوصى له بسكنى داره سنة، وليس له مال غيرها، فإنه يسكن ثلثها سنة، ويسكن الورثة الثلثين، وليست الدار كالعبد، الدار تقسم وتبعض، والعبد لا يقسم منه إلا خدمته. وقالوا: إذا أوصى له بغلة [ ص: 106 ] عبده سنة وليس له مال غيره، فإن له ثلث غلة تلك السنة، وكذلك لو أوصى له بغلة داره فهي والعبد سواء .

                                                                                                                                                                              واختلفوا في الرجل يوصي للرجل بسكنى داره سنة، ففي قول مالك: للذي أوصى له بالسكنى أن يكريها .

                                                                                                                                                                              وبه قال أبو ثور، وهو قياس قول الشافعي - رحمه الله .

                                                                                                                                                                              وقال أصحاب الرأي: ليس له أن يؤاجر الدار ولا العبد من قبل أن الإجارة توجب فيها حقا، ولم يوص له بغلة، وإنما أوصى له بالسكنى .

                                                                                                                                                                              واختلفوا في إخراج الموصى له بغلة العبد بالعبد من البلد، فقال أبو ثور : له أن يخرجه كما يخرج العبد إذا اكتراه، إلا أن يكون شرط عليه أن لا يخرجه .

                                                                                                                                                                              وقال أصحاب الرأي: ليس له أن يخرجه إلا أن يكون الموصى له أهله في غير الكوفة، فيخرجه إلى أهله فيخدمه هنالك، وإذا أوصى الرجل بخدمة عبده لرجل، ولآخر برقبته، أو سكنى دار لرجل، ولآخر برقبتها، أو لرجل بغلة داره ولآخر برقبتها، وكان ذلك يخرج من الثلث، فإن ذلك كله جائز، ونفقة العبد على صاحب الرقبة، وذلك أنه ملك للرقبة، وإنما لصاحب الخدمة المنفعة قياسا على الأجرة والرهن، فإن جنى جناية قيل لصاحب [ ص: 107 ] الرقبة: إما أن تسلمه وإما أن تفديه، فإن فداه كان على مثله، وكان صاحب الخدمة على خدمته، وإن أسلمه كان لصاحب الجناية يقوم مقام صاحب الرقبة، وكان صاحب الخدمة على خدمته، وإنما قيل صاحب الخدمة كالمكتري، فلو أن رجلا أكرى عبده من رجل شهرا، ثم جنى العبد جناية، قيل للسيد: إما أن تسلمه، وإما أن تفديه، فإن أسلمه كان العبد على أجرته، وكان الملك للمجني عليه، ولا يكون للمجني عليه أكثر من الملك، فلما لم يكن للمالك أن يبطل الأجرة، لم يكن للمجني عليه أن يبطلها. والله أعلم. هذا قول أبي ثور .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: والوصية بخدمة العبد لرجل وبرقبته لآخر جائز في قول الشافعي رحمه الله ، وأصحاب الرأي، والنفقة على صاحب الرقبة في قول الشافعي .

                                                                                                                                                                              وقال أصحاب الرأي: وإذا جنى العبد الذي أوصى بخدمته ورقبته جناية، فالفداء على صاحب الخدمة، فإن فداه كان على حاله يخدمه. فإذا مات صاحب الخدمة انتقضت الوصية، وقيل لصاحب الرقبة: أد إلى ورثة صاحب الخدمة الأرش الذي فدى به صاحبهم العبد، فإن أبى ذلك بيع العبد في ذلك، وكان بمنزلة (الذي) في (عنقه) ، فإن أبى صاحب الخدمة في أول مرة أن يفديه، فإنه يقال لصاحب الرقبة: افده [ ص: 108 ] أو ادفعه، فأي ذلك ما صنع فهو جائز، وقد بطلت الوصية في الخدمة بما أخذت من الجناية والغرم .

                                                                                                                                                                              وقد حكى ابن القاسم : أن العبد الذي أوصى بخدمته لرجل وبرقبته لآخر، إذا جنى فقال لصاحب الخدمة: افتكه، فإن افتكه خدمه إلى أجله، ثم أسلمه إلى الذي بتل له، ولم يكن عليه قليل ولا كثير، فإن أبى قيل لصاحب الرقبة: افتك، أو أسلم. فإن افتكه كان له، ولم يخدم المخدم شيئا من الخدمة. قال: فهذا الذي سمعت وبلغني عن مالك .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: وإذا جني على العبد الذي هذا سبيله فقتل خطأ، ففي قول أبي ثور: على الذي قتله قيمته يشتري بها رقبة فيكون على ما أوصى بها، وإن احتجا فقسما الثمن على الرقبة والخدمة، فيضرب صاحب الرقبة بقيمة الرقبة، وصاحب الخدمة بقيمة الخدمة. وكذلك إن كان القتل عمدا .

                                                                                                                                                                              قال أبو ثور : وهذا قياس قول مالك، وأبي عبد الله .

                                                                                                                                                                              وقال أصحاب الرأي: على عاقلة القاتل القيمة يشتري بها عبدا يخدم صاحب الخدمة .

                                                                                                                                                                              وكان أبو ثور يقول: إذا فقئت عين العبد أو جنيت عليه جناية ما كانت دون النفس، فالمخاصم فيه صاحب الرقبة حتى يأخذ الأرش، فإن كانت الجناية نقصت من الخدمة شيئا، فإن صاحب الخدمة يضرب في ذلك بقدر [ ص: 109 ] المنفعة، ويضرب صاحب الرقبة بقدر الرقبة، ويكون العبد بينهم على الوصية، فإن كانت الجناية قد منعته العمل فاختار الأرش على ما لهما، فذلك لهما، وإن اختلفا اشترى به عبدا، فكان على الوصية، وإن كانت الجناية لا تنتقص الخدمة، كان الأرش لصاحب الرقبة .

                                                                                                                                                                              وقال أصحاب الرأي: إذا فقئت عيناه أو قطعت يداه، دفع العبد إلى الجاني، وأخذت منه القيمة فاشترى به عبدا فكان على الوصية، فإن فقأ عينه أو قطع يده أو جرحه جراحا غير ذلك، فعلى الفاعل أرش ذلك، فإن كانت الجراحة تنقص الخدمة فإنه يشتري بأرشها عبدا آخر يخدم صاحب الخدمة مع العبد، أو يباع العبد فيضم ثمنه وذلك الأرش فيشترى به عبد، فإن اختلفا في ذلك لم يبع العبد واشتري بالأرش عبد يخدم صاحب الخدمة، وإن لم يوجد به عبد أوقف الأرش حتى يصطلحا عليه، وإن كانت الجناية لا تنقص الخدمة، فإن الأرش كله لصاحب الرقبة .

                                                                                                                                                                              واختلفوا في العبد الذي هذا سبيله فيوهب له مال .

                                                                                                                                                                              ففي قول أبي ثور : هو للعبد .

                                                                                                                                                                              وهذا يشبه مذهب مالك .

                                                                                                                                                                              وفي قول الشافعي رحمه الله وأصحاب الرأي: ما وهب للعبد من شيء فهو لصاحب الرقبة .

                                                                                                                                                                              واختلفوا فيمن يجب عليه نفقة العبد الموصى برقبته لرجل وبخدمته لآخر . [ ص: 110 ]

                                                                                                                                                                              فقال أبو ثور : النفقة على صاحب الرقبة، لأنه المالك لصاحب الخدمة المنفعة. وهذا يشبه مذاهب الشافعي رحمه الله وبه نقول .

                                                                                                                                                                              وقال أصحاب الرأي: ونفقة العبد وكسوته على صاحب الخدمة، ثم قالوا في العبد الصغير: نفقته على صاحب الرقبة حتى يدرك الخدمة، فإذا خدم كانت نفقته على صاحب الخدمة .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: وإذا أوجبوا نفقة الصغير ولا منفعة فيه لصاحب الرقبة لعلة الملك، كما كانت نفقة الكبير الذي لا منفعة لصاحبه فيه مثله .

                                                                                                                                                                              وقد حكي عن ابن أبي ليلى وابن شبرمة أنهما قالا: من أوصى بفرع شيء لم يوص بأصله، فالوصية باطل .

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية