الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              باب ذكر الشهادة على الكتاب المختوم

                                                                                                                                                                              أجمع أهل العلم على أن الموصي إذا كتب كتابا، وقرأه على الشهود، أو قرأ الكتاب عليه وعلى الشهود، وأقر بما فيه أن الشهادة عليه جائزة .

                                                                                                                                                                              واختلفوا في الرجل يكتب وصيته ويختم عليها، ويقول للشهود: اشهدوا علي بما في هذا الكتاب. فأجازت طائفة ذلك، وممن رأى ذلك جائزا: عبد الملك بن يعلى، ومكحول، ونمير بن [ ص: 118 ] إبراهيم، وبه قال مالك بن أنس ، والليث بن سعد ، والأوزاعي، ومحمد بن مسلمة، وأبو عبيد، وإسحاق بن راهويه .

                                                                                                                                                                              وروينا عن حفص بن عاصم أنه ذهب إلى سالم بن عبد الله ، وقد ختم وصيته فقال: إن حدث بي حدث فاشهد عليها .

                                                                                                                                                                              واحتج أبو عبيد بكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عماله وأمرائه، في نهيه وأمره، وأحكامه وسنته، ثم ما عملت به الخلفاء الراشدون المهديون بعده من كتبهم إلى ولاتهم بالأحكام التي فيها الدماء، والفروج، والأموال، يبعثون بها مختومة، ولا يعلم حاملها ما فيها، فأمضوها على وجوهها، فكذلك الشهادة على الكتاب الذي يقر به كاتبه أنه خط يده، فكل ما كان فيه من طلاق وعتاق وبيع وشراء وغير ذلك من الإقرار بالدين والصدقة فهو لازم له، وأوسع للشاهد عليه أن يشهد به إذا ثبت معرفة الصحيفة والخاتم مع إقرار كاتبها عنده بما فيها، وكذلك كتاب القاضي إلى القاضي إذا شهد الشهود على ذلك، ثم أثبتوا معرفة الكتاب، والخاتم، وسواء قرأ عليهم الكتاب أو ترك، وذكر استخلاف سليمان بن عبد الملك عمر بن عبد العزيز ، فإن سليمان كتب عهد عمر في صحيفة وختمها، وأشهدهم على عهده بما في تلك الصحيفة، من [ ص: 119 ] غير أن يعلموا ما فيها، ثم دفعها إلى رجاء بن حيوة وأمره أن يقرأها على الناس بعد وفاته، فلما دفن سليمان قرأها رجاء على الناس، فلا نعلم أحدا أنكر ذلك على سليمان .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: وفي هذه المسألة قول ثان: وهو أن ذلك لا يجوز، حتى يسمعوا منه ما في الصحيفة، أو يقرأ عليه فيقر بما فيها، هذا قول جماعة .

                                                                                                                                                                              كان الحسن البصري يكره أن يشهد الرجل على الوصية يؤتى بها مختومة حتى يعلم ما فيها، فإن كانت عدلا شهد عليها، وإن كانت حيفا - أو قال: جنفا، لم يشهد عليها. وقال أبو قلابة في هذه: لا، حتى يعلم ما فيها، لعل فيها جورا، وهذا قول الشافعي رحمه الله .

                                                                                                                                                                              وقال أصحاب الرأي: لا تجوز الشهادة على الكتاب المختوم، ما لم يقرأ كتاب الوصية على الشهود، أو يقرأ الكتاب على الموصي بحضرة من الشهود، فيقر بما فيه فحينئذ يجوز للشهود أن يشهدوا عليه، وإلا لم يجز .

                                                                                                                                                                              وقال سفيان الثوري في الشهادة على الوصية المختومة: كان ابن أبي ليلى يبطلها . [ ص: 120 ]

                                                                                                                                                                              قال سفيان: والقضاة يجيزونها .

                                                                                                                                                                              وقال أحمد بن حنبل : لا يجوز حتى يقرأها .

                                                                                                                                                                              وقال أبو ثور : وإذا كان الكتاب منشورا، ولم يقرأها على الشهود، ولم يقرأ على الموصي، وقال: اشهدوا عليها فإنها وصيتي، فإن الشهادة عليها لا تجوز، ولو قرئت عليه ففهمها، وقالوا: نشهد عليك بما قرئ. وهو لا يقدر على الكلام، إلا أنه يفهم، ويجيب بالإشارة، كانت الشهادة جائزة بمنزلة الأخرس .

                                                                                                                                                                              وكان سفيان الثوري يقول: إذا سئل المريض عن الشيء فأومأ برأسه أو بيده فليس بشيء حتى يتكلم بشيء .

                                                                                                                                                                              وقال الأوزاعي : لا تجوز وصية لمن يتكلم بها، وإن أومأ برأسه .

                                                                                                                                                                              وقال النعمان: إذا اعتقل لسان الرجل، فقرأ عليه وصيته، وأشار برأسه: نعم، أو كتب، قال: هذا باطل، ولا يجوز، ولا يشبه الأخرس. وقال في الأخرس يشير برأسه: نعم، إذا جاء من ذلك ما يعرف أنه إقرار وكتب، فهو جائز .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: لا فرق بين الأخرس الذي يشير برأسه إشارة تفهم عنه، وبين منع الكلام إذا فهم ما يومئ به، وفهمت عنه الإشارة إذ هما جميعا يعقلان، وممنوعان من الكلام . [ ص: 121 ]

                                                                                                                                                                              وقال أحمد بن حنبل في المريض يسأل عن الشيء، يومئ برأسه أو بيده، قال: لا يجوز حتى يتكلم .

                                                                                                                                                                              وقال إسحاق كذلك، إلا أن يعلم إرادته بالإشارة، أو كتب كتابا فيه وصيته، وقال: هذه وصيتي، فإن ذلك جائز .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صلى قاعدا، وصلى وراءه قوم قياما، فأشار إليهم فقعدوا .

                                                                                                                                                                              7066 - حدثنا علان بن المغيرة قال: حدثنا ابن أبي مريم قال: أخبرنا الليث بن سعد قال: حدثني أبو الزبير، عن جابر بن عبد الله قال: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلينا وراءه وهو قاعد، فالتفت إلينا فرآنا قياما، فأشار إلينا فقعدنا .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: وكل من أشار بإشارة تعقل أخرس كان أو ممنوع الكلام وهو يعقل، وجب استعمال ما أشار به إذا فهمت الإشارة عنه، استدلالا بالسنة .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: وإذا كتبها بين أيديهم وهم ينظرون إليها، ويقرؤون ما فيها ثم قال: اشهدوا أن هذه وصيتي. كانت شهادتهم جائزة في قول أبي ثور، وأصحاب الرأي . [ ص: 122 ]

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية