الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  أحكام القرآن الكريم للطحاوي

                  الطحاوي - أبو جعفر الطحاوي

                  صفحة جزء
                  تأويل قوله تعالى : ( ويسألونك عن المحيض )

                  قال الله - عز وجل - : ( ويسألونك عن المحيض قل هو أذى ) ، وكان ذلك محكما معقولا المراد به ، ثم قال - عز وجل - : ( فاعتزلوا النساء في المحيض ) ، فلم يبين لنا عز [ ص: 119 ] وجل في كتابه ما مراده في ذلك الاعتزال ؟ ثم بينه لنا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم .

                  145 - حدثنا أحمد بن داود بن موسى ، قال : حدثنا إبراهيم بن أبي سويد ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس ، أن اليهود كانوا إذا حاضت منهم المرأة أخرجوها من البيت ، فلم يؤاكلوها ، ولم يشاربوها ، ولم يجامعوها في البيوت ، فسئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ، فأنزل الله - عز وجل - : ( ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن ) الآية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " جامعوهن في البيوت واصنعوا كل شيء إلا النكاح " فقالت اليهود : ما يريد هذا الرجل يدع شيئا من أمرنا إلا خالفنا فيه ، فجاء أسيد بن حصين وعباد بن بشر ، فقالا : يا رسول الله ، إن اليهود قالت كذا ، وكذا ، أفلا نجامعهن في المحيض ؟ فتغير وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ظننا أن قد غضب عليهما ، فخرجنا من عنده فاستقبلهما هدية من لبن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبعث في آثارهما فسقاهما فعلمنا أنه لم يجد عليهما .

                  146 - حدثنا محمد بن خزيمة ، قال : حدثنا أبو الوليد الطيالسي ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس ، أن اليهود كانوا لا يأكلون ولا يشربون ولا يقعدون مع الحيض في بيت ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله - عز وجل - عن المحيض : ( قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اصنعوا كل ما شئتم ما سوى الجماع " .

                  فبين لنا في هذين الحديثين الاعتزال المراد في الآية ، وأنه الاعتزال في الجماع لا فيما سواه مما كانت اليهود يعتزلوهن فيه .

                  وأما ما في الحديث الأول من تغير وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند قول أسيد وعباد بن بشر أن اليهود قالت كذا وكذا ، فلا تجامعوهن في المحيض ، فوجه ذلك عندنا والله أعلم : أن الذي كان عليه اليهود من هذا هو شريعتهم التي كانوا عليها ، والذي على كل نبي اتباع شرائع الأنبياء قبله حتى يحدث الله - عز وجل - له من الشرائع ما ينسخها ، فلما قال أسيد وعباد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قالا ، وكان من [ ص: 120 ] مرادهما في ذلك مخالفة اليهود ولم يأمر الله - عز وجل - بخلافهم فيه إلى يومئذ ، كره ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهما . وقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب ما :

                  147 - حدثنا الربيع المرادي ، قال : حدثنا أسد ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن أبي حمزة ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة رضي الله عنها ، أنها قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي ، فوجد القر ، فقال : " يا عائشة ، ألقي علي من مرطك " قالت : فقلت إني حائض فقال : " أعلمه ويحك ، إن حيضك ليس في ثوبك " .

                  ففي هذا الحديث إباحة الطاهر أن يجتمع مع الحائض تحت مرط واحد .

                  148 - وقد حدثنا أبو بكرة ، قال : حدثنا وهب ، قال : حدثنا شعبة ، عن المقدام بن شريح ، عن أبيه ، عن عائشة ، أنها قالت : كنت أشرب من الإناء وأنا حائض ، ثم أناوله لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيضع فاه على ذلك المكان ، وكنت أتعرق من اللحم أو العظم ، ثم أناوله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيأخذه فيضع فاه على ذلك المكان فيتعرقه " .

                  ففي هذا الحديث إباحة سؤر الحائض وفضلها من الطعام الطاهر .

                  149 - وقد حدثنا يونس ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن منبوذ ، عن أمه ، قالت : كنت عند ميمونة فأتاها ابن عباس وهو شعث الرأس ، فقالت : مالك أي بني شعث رأسك ؟ قال : أم عمار مرجلتي حائض فقالت " أي بني ، وأين الحيضة من اليد! كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخل على إحدانا وهي حائض فيضع رأسه في حجرها فيتلو القرآن ، وتقوم إحدانا بخمرته إلى المسجد فتبسطها وهي حائض ، أي بني وأين الحيضة من اليد " .

                  150 - حدثنا أبو بكرة ، قال : حدثنا مؤمل بن إسماعيل ، قال : حدثنا سفيان ، قال حدثنا منصور بن عبد الرحمن ، عن أمه صفية ، عن عائشة ، قالت : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - " يضع رأسه في حجري وأنا حائض فيقرأ القرآن " . [ ص: 121 ] .

                  151 - حدثنا يونس ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور بن عبد الرحمن ، عن أمه أن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت تعطي النبي - صلى الله عليه وسلم - الخمرة وهي حائض " .

                  ففي هذه الأحاديث إباحة الطاهر وضع رأسه في حجر الحائض وإباحة وضع الحائض له ما يصلي عليه .

                  152 - وقد حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، أن مالكا حدثه ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها ، أنها قالت : " كنت أرجل رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا حائض " .

                  153 - حدثنا أبو بكرة ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة ، قالت : " كنت أغسل رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو معتكف وأنا حائض " .

                  ففي هذا الحديث طهارة يد الحائض لأنها قد لاقت رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالبلل الذي كان فيها من الماء .

                  154 - حدثنا أبو بكرة ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة ، قالت : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر إحدانا أن تتزر وهي حائض ثم يضاجعها " .

                  قال شعبة : وربما قال : يباشرها .

                  155 - حدثنا علي بن معبد ، قال : حدثنا يعلى بن عبيد الطنافسي ، قال : حدثنا جرير بن عمرو ، عن الشعبي ، عن مسروق ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : " ربما باشرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا حائض فوق الإزار " . [ ص: 122 ] .

                  156 - حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس بن يزيد ، والليث ، عن ابن شهاب ، عن حبيب ، مولى عروة بن الزبير ، عن بدية ، قال ابن وهب : كان الليث يقول : ندبة مولاة ميمونة ، عن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " يباشر المرأة من نسائه وهي حائض إذا كان عليها إزار يبلغ أنصاف الفخذين أو إلى الركبتين " في حديث أحدهما محتجزة به .

                  157 - حدثنا محمد بن عمرو بن يونس ، قال : حدثني أسباط بن محمد ، عن أبي إسحاق الشيباني ، عن عبد الله بن شداد ، عن ميمونة ، قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " يباشر نساءه فوق الإزار وهن حيض " .

                  ففي هذه الأحاديث إباحة مباشرة الحيض فوق الإزار ، وهذا مما لا نعلم فيه بين أهل العلم اختلافا .

                  واختلفوا في مجامعتها تحت الإزار في غير فرجها فأباح ذلك بعضهم وذهب إلى أن في حديث أنس بن مالك الذي قد ذكرناه في صدر هذا الباب قد دل على إباحة ذلك وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اصنعوا كل شيء ما خلا الجماع " .

                  وقالوا : ليس فيما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مباشرته نساءه فوق الإزار ما يدل على حرمة ما تحت الإزار منهن عليه ، وقالوا : قد روي عن عائشة في هذا بعد علمها بما كان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه مما قد رويناه عنها إباحة ذلك وذكروا ما :

                  158 - قد حدثنا ابن أبي داود ، قال : حدثنا عمرو بن خالد ، قال : حدثنا عبيد الله بن عمرو ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، أن رجلا سأل عائشة : ما يحل للرجل من امرأته إذا كانت حائضا ؟ قالت : " كل شيء إلا فرجها " .

                  159 - حدثنا ابن أبي داود ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا عبيد الله ، عن أيوب ، عن أبي معشر ، عن إبراهيم ، عن مسروق ، عن عائشة مثل ذلك [ ص: 123 ] .

                  160 - حدثنا الربيع المرادي ، قال : حدثنا شعيب بن الليث ، قال : حدثنا الليث ، عن بكير بن عبد الله بن الأشج ، عن أبي مرة ، مولى عقيل ، عن حكيم بن عقال ، قال : سألت عائشة ، قلت : ما يحرم علي من امرأتي إذا حاضت ؟ قالت : " فرجها " .

                  قالوا : وقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على هذا المعنى أيضا فذكروا ما :

                  161 - حدثنا الربيع المرادي ، قال : حدثنا أسد ، قال : حدثنا يحيى بن عيسى ، عن الأعمش ، عن ثابت بن عبيد ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ناوليني الخمرة من المسجد " ، فقلت : إني حائض ، فقال : " ليس حيضتك في يدك " .

                  162 - حدثنا الربيع المرادي ، قال : حدثنا أسد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البهي ، عن ابن عمر ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، مثله .

                  163 - حدثنا الربيع ، قال : حدثنا أسد ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن البهي ، عن عائشة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مثله ولم يذكر ابن عمر .

                  ففي هذه الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال لعائشة : " ليس حيضتك في يدك " .

                  فدل ذلك على أن كل عضو منها ليس فيه الحيضة في الطهارة ، بمعنى ما كان عليه قبل الحيض ، ودليل على أن الحيض لم يغير شيئا من المرأة عما كان عليه قبل الحيض غير موضع الحيض خاصة ، وممن ذهب إلى هذا القول محمد بن الحسن فيما حدثنا سليمان بن شعيب عن أبيه وهو قول مالك ، والشافعي ، وأما أبو حنيفة فكان يذهب في ذلك إلى القول الأول ويمنع من مجامعة الحيض إلا فيما فوق الإزار ، ومما ثبت ما ذهب إليه أبو حنيفة من ذلك ما :

                  164 - حدثنا فهد ، قال : حدثنا علي بن معبد ، قال : حدثنا عبيد الله بن عمرو ، عن زيد بن [ ص: 124 ] أبي أنيسة ، عن أبي إسحاق ، عن عمير ، مولى لعمر بن الخطاب ، قال : " جاء نفر من أهل العراق إلى عمر ، فقال لهم عمر : أبإذن جئتم ؟ قالوا : نعم ، قال : ما حاجتكم ؟ قالوا : جئنا نسألك عن ثلاثة أشياء قال : ما هي ؟ قالوا : نسألك عن صلاة الرجل في بيته تطوعا ما هي ؟ والحائض ما يصلح لزوجها منها ؟ وعن الغسل من الجنابة ؟ فقال لهم : أسحرة أنتم ؟ قالوا : لا ، قال : لقد سألتموني عن ثلاث ما سألني عنهن أحد منذ سألت عنهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غيركم أما صلاة الرجل في بيته تطوعا فنور في بيتك ، وأما الحائض فلك منها ما فوق الإزار ، وليس ما تحته ، وأما الغسل من الجنابة فتبدأ فتتوضأ وضوءك للصلاة ، ثم تفرغ على رأسك ثلاث مرات تدلك رأسك كل مرة ثم تفيض على سائر جسدك " .

                  165 - حدثنا ابن أبي داود ، قال : حدثنا علي بن الجعد ، قال : حدثنا زهير بن معاوية ، عن أبي إسحاق ، عن عاصم بن عمر السامي ، عن أحد النفر الذين أتوا عمر بن الخطاب وكانوا ثلاثة ، ثم ذكر هذا الحديث .

                  وكان من الحجة لأبي حنيفة في مذهبه في هذا أن الحكم في ظاهر قول الله - عز وجل - : ( فاعتزلوا النساء في المحيض ) هو اعتزالهن في كل أحوالهن حتى بين لنا على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل ما أراد بذلك الاعتزال على ما في حديث أنس ، فكان ذلك على اعتزال الجماع منهن خاصة ، ثم زاد خبر عمر - رضي الله عنه - على ذلك اعتزال الاطلاع على ما تحت الإزار منهن ، فكان أولى من خبر أنس ، لأن فيه زيادة على ما روى أنس ، فثبت بذلك عندنا ما قال أبو حنيفة وهو قول أبي يوسف ، حدثنا بذلك من قول أبي حنيفة سليمان بن شعيب ، عن أبيه ، عن محمد ، عن أبي حنيفة .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية