الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  أحكام القرآن الكريم للطحاوي

                  الطحاوي - أبو جعفر الطحاوي

                  صفحة جزء
                  وقد روي عن أبي سعيد الخدري في اعتكاف رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                  1104 - حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : حدثني مالك ، عن يزيد بن عبد الله الهاد ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ، عن أبي سلمة ، عن أبي سعيد الخدري ، أنه قال : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتكف في العشر الأوسط من رمضان " .

                  فاعتكف عاما حتى إذا كانت ليلة إحدى وعشرين ، وهي الليلة التي كان يخرج فيها من اعتكافه صلى الله عليه وسلم ، قال : " من اعتكف فليعتكف العشر الأواخر ، وقد رأيت هذه الليلة ثم أنسيتها ، وقد رأيتني أسجد من صبيحتها في ماء وطين ، فالتمسوها في العشر الأواخر ، والتمسوها في كل وتر " .


                  ففي هذا الحديث أن دخول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لاعتكافه العشر الأواخر كان في الليلة التي قبل اليوم الأول من العشر الأواخر ، بل غابت الشمس من اليوم العشرين وهو في معتكفه [ ص: 483 ] .

                  فقد دل ذلك أن من أراد الاعتكاف العشر الأول من شهر رمضان أنه يعتكف لياليها وأيامها غير أن الشافعي قد روى هذا الحديث عن مالك ، فخالف ابن وهب في حرف منه ، وذلك أن إسماعيل المزني :

                  1105 - حدثنا ، قال : حدثنا الشافعي ، قال : حدثنا مالك ، عن يزيد بن عبد الله بن الهاد ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ، عن أبي سلمة ، عن أبي سعيد ، أنه قال : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتكف العشر الأوسط من رمضان ، فاعتكف عاما حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين ، وهي الليلة التي كان يخرج في صبيحتها من اعتكافه " ، ثم ذكر بقية الحديث .

                  فأما قوله : " حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين وهي الليلة التي كان يخرج في صبيحتها من اعتكافه " ، فهو على أنه كان - صلى الله عليه وسلم - لا يخرج من اعتكافه العشر الأوسط حتى تمضي ليلة إحدى وعشرين وليست من العشر الأوسط .

                  وقد خالفه في ذلك ابن وهب فيما رويناه عنه عن مالك ، فهو عندنا على ما روى ابن وهب ، لأن الليث والدراوردي جميعا قد رويا هذا الحديث عن ابن الهاد كما رواه ابن وهب ، عن مالك ، لا كما رواه الشافعي عنه .

                  1106 - حدثنا فهد بن سليمان ، ومحمد بن خزيمة ، قالا : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني الليث ، قال : حدثني ابن الهاد ، عن محمد بن إبراهيم ، عن أبي سلمة ، عن أبي سعيد ، أنه قال : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجاور في رمضان العشر التي في وسط الشهر ، فإذا كان حين يمسي من عشرين ليلة يمضي ويستقبل إحدى وعشرين ، رجع إلى مسكنه ، ويرجع من جاور معه ، ثم إنه أقام في شهر جاور فيه تلك الليلة التي كان يرجع فيها ، فخطب الناس ، وأمرهم بما شاء الله - عز وجل - ، ثم قال : " إني كنت أجاور هذا العشر ، ثم قد بدا لي أن أجاور هذه العشر الأواخر ، فمن كان اعتكف معي فليمكث في معتكفه .

                  1107 - " حدثنا المزني ، قال : حدثنا الشافعي ، قال : حدثنا عبد العزيز بن محمد ، عن ابن الهاد ، ثم ذكر بإسناده مثله سواء حرفا حرفا .

                  فكان هذا الحديث موافقا لما روى ابن وهب ، عن مالك ، ومخالفا لما رواه الشافعي ، عن مالك [ ص: 484 ] .

                  وفي هذا الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقام في معتكفه ليلة إحدى وعشرين لما أراد اعتكاف العشر الأواخر .

                  فدل ذلك على أن كذلك سنته - صلى الله عليه وسلم - فيمن أراد اعتكاف أيام ، أن عليه اعتكاف لياليها معها ، وأنه يبتدئ في دخوله في معتكفه قبل غروب الشمس من اليوم الذي قبلها ، فلا يزال فيه حتى تمضي الأيام التي أوجب على نفسه اعتكافها وحتى تمضي لياليها .

                  فقد اختلف أهل العلم في مثل هذا في رجل قال : لله - عز وجل - علي اعتكاف عشرة أيام .

                  فكان بعضهم يقول : يدخل المسجد عند غروب الشمس من اليوم الذي قبلها ، فيقيم فيه معتكفا إلى انقضاء تلك العشرة الأيام ، فيكون قد اعتكف عشرة أيام وعشر ليال وممن قال ذلك منهم : أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد فيما حدثنا محمد بن علي ، عن محمد ، عن أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، وعن علي ، عن محمد .

                  وقال بعضهم : يدخل المسجد الذي يعتكف فيه عند طلوع الفجر من اليوم الأول من تلك العشرة الأيام فيقيم فيه حتى تنقضي تلك العشرة الأيام ، فيكون قد اعتكف عشرة أيام وتسع ليال ، وممن قال ذلك زفر بن الهذيل ، فيما حدثنا محمد ، عن يحيى ، عن الحسن ، عن زفر .

                  قال أحمد : وكان ما ذهب إليه أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد في ذلك أحب إلينا ، لأنه موافق لما رويناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مما قد ذكرناه في هذا الباب ، ولأنه قد دلنا عليه كتاب الله عز وجل في الحكاية عن نبيه زكريا عليه السلام ، إذ قال : ( رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا ) .

                  وقال في موضع آخر : ( ثلاث ليال سويا ) .

                  فعقلنا بذلك أن زكريا سأل ربه أن يجعل له آية فجعل له آية واحدة كما سأله ، ثم ذكرها لنا في كتابه في موضع بالأيام ، وفي موضع آخر بالليالي ، وسوى بين عدد الأيام وعدد الليالي .

                  فعقلنا بذلك أنه إن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مأمورا بالأيام ، فقد دخلت فيها الليالي ، وإن كان مأمورا بالليالي فقد دخلت فيها الأيام ، ولما استوى عدد الأيام [ ص: 485 ] وعدد الليالي في ذلك وجب أن يكون من أوجب على نفسه اعتكاف أيام ، كان عليه معها من الليالي مثل عددها ، وإن أوجب على نفسه اعتكاف ليال ، كان عليه معها من الأيام مثل عددها ، فثبت بذلك ما قال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد مما ذكرنا عنهم في هذا المعنى .

                  تم كتاب الصيام ، والاعتكاف ، من كتاب أحكام القرآن العظيم ، ولله الحمد والمنة وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .

                  فرغ من نسخه أفقر عباد الله تعالى إلى رحمته محمد بن أحمد بن صفي الغزولي ، عفا الله عنه ، في مستهل شعبان الكرم سنة 757 هـ .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية