الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  أحكام القرآن الكريم للطحاوي

                  الطحاوي - أبو جعفر الطحاوي

                  صفحة جزء
                  فلما كانت وقعة بدر فقتل الله فيها صناديد الكفار ، قال : كفار قريش : إن ثأركم بأرض الحبشة فابعثوا إليه رجلين من ذوي رأيكم لعله يدفع إليهما من عنده من قريش فنقتلهم بمن قتل منكم يوم بدر .

                  ففي هذا الحديث أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين كانوا هاجروا إلى أرض الحبشة لم يخرجوا عنها حتى جعل الله - عز وجل - لهم دار هجرة أخرى سواها وهي المدينة .

                  وفيه أيضا أن عثمان الذي ذكر محمد بن إسحاق أن قدومه كان مع قدوم ابن مسعود على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة ، إنما كان بالمدينة ، وهؤلاء الذين رووا هذا الحديث فهم أصحاب المغازي الذين أخذ محمد المغازي عمن أخذها عنهم ، وهو الزهري ، ولا [ ص: 219 ] سيما إن كان الذي ذكر أن قدوم ابن مسعود على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان بمكة ، نقول : أن منقطع ابن المسيب يقوم مقام المتصل .

                  وقد روي عن عائشة رضي الله عنها ما يدل على هذا المعنى أيضا .

                  411 - حدثنا يونس ، قال : حدثني ابن وهب ، قال حدثني يونس ، عن ابن شهاب ، قال : حدثني عروة ، أن عائشة رضي الله عنها ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو بمكة للمسلمين : " قد أريت دار هجرتكم ، فرأيت سبخة ذات نخل بين لابتين وهما الحرتان " ، فهاجر من هاجر قبل المدينة حين ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك ، ورجع إلى المدينة بعض من هاجر إلى أرض الحبشة .

                  412 - حدثنا فهد ، قال : حدثنا محمد بن كثير ، قال : سمعت معمرا يحدث ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة رضي الله عنها ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثله .

                  ففي هذا الحديث ما يدل على أن المسلمين الذين هاجروا إلى أرض الحبشة لم يرجعوا إلا إلى دار هجرة سواها ، وكيف يجوز أن يقال : إنهم رجعوا إلى دار قد هاجروا منها وذلك مما قد منعوا منه ، ألا ترى إلى ما قد روى العلاء بن الحضرمي - رضي الله عنه - ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                  413 - حدثنا يونس ، قال : حدثنا أنس بن عياض الليثي ، عن عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف ، قال : سمعت عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - ، يسأل السائب بن يزيد ما سمعت في سكنى مكة ؟

                  فقال : قال العلاء بن الحضرمي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " ثلاث للمهاجر بعد الصدر " .


                  414 - حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا حبان بن هلال ، قال : حدثني يحيى بن سعيد ، قال : حدثني عبد الرحمن بن حميد ، فذكر بإسناده مثله .

                  415 - حدثنا ابن أبي داود ، قال : حدثنا الوحاظي ، قال : حدثنا سليمان بن بلال ، قال حدثني عبد الرحمن بن حميد ، فذكر بإسناده مثله ، وزاد كأنه يقول : لا يزيد عليها [ ص: 220 ] .

                  أفلا ترى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يرخص للمهاجرين في الإقامة في الدار التي هاجروا منها أكثر من المدة التي وقتها لهم في حديث العلاء الذي ذكرناه .

                  416 - ولقد حدثنا يونس ، قال : حدثنا سفيان ، عن الزهري ، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص ، عن أبيه ، أنه قال : مرضت عام الفتح مرضا أشفيت منه على الموت ، فأتاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعودني ، فقلت : يا رسول الله ، أخلف عن هجرتي ، قال : " إنك لن تخلف بعدي فتعمل عملا تريد به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة ، ولعلك أن تخلف بعدي حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون ، اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ، ولا تردهم على أعقابهم " ، لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن مات بمكة .

                  أفلا ترى أن سعدا قد قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أخلف عن هجرتي لكراهية المقام في غير دار هجرته ، وإلى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سعد بن خولة ما قد قاله فيه لموته في غير دار هجرته .

                  417 - ولقد حدثني محمد بن علي بن داود ، قال : حدثنا عفان ، قال : حدثنا وهيب بن خالد ، قال : حدثنا عبد الله بن عثمان بن خيثم ، عن عمرو بن القاري ، عن أبيه ، عن جده عمرو بن القاري ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدم مكة ، فخلف سعدا مريضا حين خرج إلى حنين ، فلما قدم من الجعرانة معتمرا دخل عليه وهو وجع ، فقال : يا رسول الله ، أميت أنا في الدار التي خرجت منها ؟ قال : " إني لأرجو أن يرفع الله - عز وجل - بك أقواما وينتفع بك آخرون ، يا عمرو بن القاري ، إن مات سعد بعدي فادفنه هاهنا نحو طريق المدينة وأشار بيده هكذا " .

                  أفلا ترى أن سعدا ، قال : يا رسول الله ، أميت أنا في الدار التي خرجت منها ، يعني : للهجرة إلى غيرها ، أي : أن ذلك مكروه ، ولم ينكر ذلك عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                  ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمرو القاري : " إن مات سعد بعدي فادفنه نحو طريق المدينة " أي : نحو الطريق إلى الدار التي هاجر إليها .

                  وكيف يجوز لأحد بعد هذا أن يظن بالمهاجرين الأولين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم تركوا دار هجرتهم التي اختارها الله - عز وجل - لهم على الدار التي كانوا فيها ، ورجعوا إلى الدار التي كانوا فيها ، إن هذا من القول لعظيم [ ص: 221 ] .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية