الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  أحكام القرآن الكريم للطحاوي

                  الطحاوي - أبو جعفر الطحاوي

                  صفحة جزء
                  واحتج أهل هذه المقالة لقوله هذا بما روي في السبب الذي من أجله نزلت هذه الآية يعني : قوله - عز وجل - : ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين ) الآية .

                  782 - حدثنا عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم ، قال : حدثنا الفريابي ، قال : حدثنا قيس بن الربيع ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، قال : جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فسأله وهو يقسم ، فأعرض عنه وجعل يقسم ، فقال : أتعطي رعاء الشاء ؟ والله ما عدلت ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " فمن يعدل إذا لم أعدل ؟ " فأنزل الله - عز وجل - : ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين ) الآية كلها .

                  قال : ففي هذا ما يدل أنه إنما أريد بهذه الآية نفي غير أهل هذه الأصناف وإخراجهم من أهلها .

                  وقال قائلون : بل موضع الصدقات كلها من زكاة الأموال ، ومن صدقات الفطر في الأصناف التي سمى الله - عز وجل - في هذه الآية التي تلونا ، إلا أنه من فقد منها صنفا فلم يوجد كالمؤلفة قلوبهم الذين قد فقدوا ، رجع جميع الصدقة في الأصناف الباقية المسلمين فيها ، وممن قال بهذا القول الشافعي .

                  ولما اختلفوا في ذلك واحتملت الآية ما ذهب إليه كل واحد من الفريقين فيما تأولها [ ص: 373 ] عليه ، كان أولى الأشياء بنا صرف تأويلها إلى ما روي عن ابن عباس ، وعن حذيفة في ذلك ، ولا نعلم لها في ذلك من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مخالفا مع أنه روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على ما ذهبنا إليه من ذلك .

                  783 - حدثنا يزيد بن سنان ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، عن محمد بن عمرو بن عطاء ، عن سليمان بن يسار ، عن سلمة بن صخر ، قال : كنت امرءا قد أوتيت من جماع النساء ما لم يؤت أحد غيري ، فلما دخل رمضان تظهرت من امرأتي مخافة أن أصيب منها شيئا ، فأتتابع في ذلك فلا أستطيع أن أنزع حتى يدركني الصبح ، فبينا هي ذات ليلة تخدمني إذ كشف لي منها شيء فوثبت عليها ، فلما أصبحت غدوت إلى قومي فأخبرتهم خبري وقلت : انطلقوا معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : لا ، والله لا ننطلق معك ، نخاف أن ينزل فيك قرآن ، أو يقول فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقالة يبقى علينا عارها ، ولكن اذهب أنت ، فاصنع ما بدا لك ، قال : فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبرته خبري ، قال : " أنت بذاك ؟ " ، قلت : أنا بذاك قال : " أنت بذاك " ؟ قلت : أنا بذاك ، قال : " أنت بذاك " ، قلت : أنا بذاك ، وهأنذا ، فاصنع ما بدا لك ، فإني صابر عليك .

                  قال : " فأعتق رقبة " .

                  قال : فضربت صفحة عنقي وقلت : والذي بعثك بالحق ما أصبحت أملك غيرها .

                  قال : " فصم شهرين متتابعين " ، قال : قلت : يا رسول الله ، وهل أصابني ما أصابني إلا في الصيام .

                  قال : " فأطعم ستين مسكينا " ، قال : قلت : يا رسول الله ، والذي بعثك بالحق لقد بتنا هذه الليلة وحشاء ، ما لنا طعام .

                  قال : " انطلق إلى صاحب صدقة بني زريق ، فمره يدفع إليك صدقاتهم ، " فأطعم وسقا بين ستين مسكينا ، واستعن بسائره عليك وعلى عيالك " .

                  قال : فأتيت قومي ، فقلت : وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي ، ووجدت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السعة والبركة ، قد أمركم أن تدفعوا إلي صدقة أموالكم ، فدفعوها لي ، فأطعمت وسقا ستين مسكينا ، وأكلت سائره أنا وأهلي
                  .

                  فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد جعل لقوم سلمة بن صخر أن يدفعوا صدقاتهم إلى سلمة بن صخر ، وليس من أهل الأصناف المذكورة في الآية التي تلوناها [ ص: 374 ] كلها ، إنما هو من صنف واحد من أصنافها ، فدل ما ذكرنا على صحة تأويل ابن عباس وحذيفة الذي ذكرناه عنهما .

                  وقد روينا فيما تقدم من كتابنا هذا حديث عبد الله بن الخيار عن رجلين من قومه ، أنهما أتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقسم الصدقة ، فسألاه منها ، فرفع البصر فيهما وخفضه فرآهما رجلين قويين ، فقال : " إن شئتما فعلت ، ولا حق فيها لغني ولا لقوي مكتسب " ، ولم يسألهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصنف الذي هما منه من أصناف أهل الصدقة المذكورة في الآية التي تلونا ، ولو كان يحتاج إلى إدخالهما في صنف من أصنافها ليحسب بما يعطيهما منها في جزء ذلك الصنف .

                  وقد روينا فيما تقدم منا في كتابنا هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه أمر معاذ بن جبل لما وجهه على الصدقة ، " أن يأخذها من الأغنياء فيضعها في الفقراء " . فدل ذلك على أن أهل الصدقة هم الفقراء ، وكل من وقع عليه بهذا الاسم كان مستحقا لها .

                  فإن قال قائل : فقد رويتم فيما تقدم من هذا الكتاب حديث الصدائي ، لما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله - عز وجل - لم يرض في الصدقات بحكم نبي ولا غيره حتى جزأها ثمانية أجزاء ، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك منها " .

                  قال : فهذا قد دل على أن الصدقات مجزأة على ثمانية أجزاء على ما في الآية التي تلونا قيل له : في هذا الحديث ما دل على ما قلنا ، وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك منها " ، ولم يقل : فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك ما يصيب ذلك الجزء منها .

                  وفي هذا الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب للصدائي بشيء من صدقة قومه كتابا ، ولم يسأله من الغارمين هو أو من سائر أصناف الصدقات الذين ذكرهم الله - عز وجل - في الآية التي تلونا ليكون يكتب إلى عامله على الصدقة فيما هناك أن يحتسب بالذي يدفعه إليه منها في حصة أهل ذلك الجزء منها .

                  فدل ذلك أن مراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله للصدائي : إن الله - عز وجل - جزأها ثمانية أجزاء يجزئ وضع الصدقات منها في كل جزء منها [ ص: 375 ] .

                  ولما كان الإمام إذا اجتمعت عنده الصدقات ، جعلها حيث يجب عليه أن يجعلها فيه ، إن كان فيما قد صار إليه منها شيء بعينه كابنة مخاض ، أو كابنة لبون ، أو كحقة ، أو كجذعة ، أو كثنية أو كسوى ذلك مما يجب في سوائم المواشي ، ولم يكن عليه مع ذلك حتى يحصل ثمنه دراهم أو دنانير ، أو ما سواها مما تمكن تجزئته على جميع الأصناف الذين ذكرهم الله - عز وجل - وعرائه في الصدقات ، وإنما كان عليه وضع ما صار في يده منها بعينه فيما يجب وضعه فيه ، ولم يكن عليه أن يعم بما أعطاه كل رجل منهم أهل الأصناف ، دل ذلك على أن المراد بالآية ما ذهب إليه في تأويلها ابن عباس ، وحذيفة مما ذكرناه عنهما .

                  وقد ذكرنا في حديث سلمة بن صخر الذي رويناه في هذا الباب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه " أمره أن يأخذ من قومه صدقاتهم " . فدل ذلك أن ما جعل للمساكين فجائز أن يدفع إلى واحد منهم ، وقد كان أبو يوسف رحمه الله ، يقول في رجل أوصى بثلث ماله لفقراء بني فلان وهم لا يحصون : أنه يجوز للوصي وضع ذلك في فقير واحد منهم . حدثنا بذلك محمد ، عن علي ، عن محمد عنه وكان محمد بن الحسن يخالفه في ذلك ويقول : لا يجزئ وضع ذلك إلا في اثنين فصاعدا من فقراء بني فلان الموصى لهم . حدثنا بذلك محمد بن علي عنه .

                  ولما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سلمة بن صخر أن يأخذ صدقات قومه التي ترجع إلى الفقراء ، دل ذلك على أن ما قصد به إلى الفقراء والمساكين ، فإنما هو لله - عز وجل - .

                  ألا ترى أن الوصية لهم بذلك جائزة ، وإن كانوا لا يحصون ، وأن ذلك ليس كالوصية بالمال لبني فلان الذين لا يحصون ، الوصية بذلك باطل ، وهو خلاف الوصية بالشيء للفقراء من بني فلان ، لأن ذلك يرجع إلى الله - عز وجل - ، فما كان يرجع إلى الله - عز وجل - فجائز أن يوضع في مسكين واحد ، أو في فقير واحد .

                  ألا ترى أن محمدا قد قال في رجل أوصى بثلث ماله لفلان ولفقراء بني فلان : أن الثلث يقسم بين فلان وبين فقراء بني فلان نصفين ، فيكون لفلان نصفه ، ويكون نصفه في فقراء بني فلان ، ولو كان الواجب أن يكون في فقيرين من فقراء بني فلان لوجب أن يقسم الثلث ، بين ذلك الفقيرين وبين فلان المسمى ، على ثلاثة أسهم .

                  فلما ردوا حكم الوصايا للفقراء إلى الله - عز وجل - ، كان مباحا للذي يتولاه ، وضع [ ص: 376 ] ذلك فيما يرى من الحاجة إليه وإن كان المحتاج إليه واحدا على ما آثر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سلمة بن صخر على غيره من سائر الفقراء .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية