الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  صفحة جزء
                  وقد احتج من يذهب إلى قول كل واحد منهما لقوله الذي حكيناه في هذا الباب بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كتابه الذي كتبه أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - لأنس لما ولاه : " لا يفرق بين مجتمع ، ولا يجمع بين متفرق خشية الصدقة ، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعا بينهما بالسوية .

                  629 - حدثنا بذلك إبراهيم ، قال : حدثنا محمد ، قال : حدثنا أبي ، عن ثمامة ، عن أنس ، أن أبا بكر لما استخلف ، وجه أنسا إلى البحرين ، فكتب له هذا الكتاب : " هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين التي أمر الله - عز وجل - بها رسوله صلى الله عليه وسلم ، فمن سئلها من المؤمنين على وجهها فليعطها ، ومن سئل فوقها فلا يعطها " .

                  فذكر فيها هذا الكلام الذي ذكرناه .

                  630 - حدثنا الربيع المرادي ، قال : حدثنا أسد ، قال : حدثنا حماد ، قال : أخذت من ثمامة كتابا زعم أن أبا بكر ، كتبه لأنس حيث بعثه مصدقا وعليه خاتم أبي بكر وخاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكتبه له ، فإذا فيه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين التي أمر الله - عز وجل - بها رسوله صلى الله عليه وسلم ، فمن سئلها من المسلمين فليعطها ، ومن سئل فوقها فلا يعطها ثم ذكر هذا الكلام أيضا .

                  631 - حدثنا أبو بكرة ، حدثنا ابن عمر ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، قال : أرسلني ثابت إلى ثمامة ليبعث إليه بكتاب أبي بكر الذي كتبه لأنس حيث بعثه مصدقا ، فدفعه إليه ، ثم ذكر مثله .

                  632 - حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني ابن لهيعة ، عن عمارة ، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم ، أخبره أن هذا كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمرو في الصدقة ، " لا يفرق بين مجتمع ، ولا يجمع بين متفرق خشية الصدقة ، ولا تخرج في الصدقة هرمة ، ولا ذات عوار ، ولا تيس إلا أن يشاء المصدق ، وما كان من خليطين فإنهما [ ص: 315 ] يتراجعان بينهما بالسوية " .

                  633 - حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، عن سالم ، وعبد الله ابني ابن عمر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بنحو ذلك .

                  أفلا ترى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أمر أن لا يجمع بين متفرق ، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة ، وأن يتراجع الخليطان بينهما بالسوية ، فاستدلا بذلك يعني : مالكا ، والشافعي ، على أن حكم الخليطين في المواشي خلاف حكمهما لو كانا منفردين غير خليطين .

                  يقال لهما : قد قبل العلماء جميعا هذا الكلام الذي ذكرتموه في الخليطين جميعا ، وصححوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكنه مختلف في تأويله .

                  فقال بعضهم : أما قوله : " لا يفرق بين مجتمع " ، فأن يكون للرجل الواحد مائة شاة وعشرون شاة ، ففيها شاة واحدة ، فإن فرقها المصدق فجعلها أربعين أربعين ، لتكون فيها ثلاث شياه فقد فرق بين مجتمع ، فذلك حرام عليه .

                  وأما قوله : " ولا يجمع بين متفرق " ، فالرجلان يكون لكل واحد منهما أربعون ، فتكون عليهما شاتان فيجمعانها لتكون عليهما شاة واحدة ، فإذا فعلا ذلك فقد جمعا بين متفرق ، فذلك حرام عليهما .

                  وذهب قائلوا هذا القول في تأويل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خشية الصدقة " ، إلى أن الخشية في هذا : هي في كثرة الصدقة في أرباب الماشية ، وفي قلتها من المصدق ، وممن قال هذا القول أبو حنيفة ، حدثناه بذلك سليمان ، عن أبيه ، عن محمد ، عن أبي يوسف ، عن أبي حنيفة غير ما ذكرناه في تأويل " خشية الصدقة " ، فإن ذلك مما لم يحكه لنا سليمان ، ولم يحك سليمان فيما حكى لنا مما ذكرنا اختلافا بين أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، ومحمد .

                  وأما أصحاب الإملاء منهم بشر بن الوليد الكندي ، فحكوا عن أبي يوسف أنه أملا عليهم في تأويل هذا الحديث كما حدثنا جعفر بن أحمد بن الوليد ، قال : حدثنا بشر بن الوليد ، قال : سمعت أبا يوسف ، قال : هو أن يكون للرجل ثمانون شاة ، فإذا جاءه المصدق ، قال : هي بيني وبين إخوتي ، لكل واحد منا عشرون فلا زكاة فيها ، أو يكون له أربعون [ ص: 316 ] ولأخيه أربعون ولأخ له آخر أربعون ، فتكون جملتها مائة وعشرين شاة ، فيكون الذي يجب عليهم فيها ثلاث شياه ، فإذا جاءها المصدق جمعها ، فقال : هذه كلها لي ، والذي علي فيها شاة واحدة ، فهذه خشية الصدقة ؛ لأن الذي تؤخذ منه الصدقة هو الذي يخشى الصدقة .

                  وأما مالك رحمه الله فروي عنه ما حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال أخبرني مالك ، قال : أما " لا يفرق بين مجتمع " فأن يكون الخليطان لكل واحد منهما مائة شاة وشاة ، فيكون عليهما في ذلك ثلاث شياه ، فإذا أظلهم المصدق فرقوا غنمهما ، فلم يكن على كل واحد منهما إلا شاة واحدة ، فنهي عن ذلك وقيل : لا يفرق بين مجتمع ، وأما لا يجمع بين متفرق ، فأن ينطلق الثلاثة الذين لكل واحد منهم أربعون شاة قد وجب على كل واحد منهم في غنمه الصدقة ، فإذا أظلهم المصدق جمعوا جميعا ، لئلا يكون عليهم فيها إلا شاة واحدة .

                  قال مالك رحمه الله : فهذا الذي سمعت في ذلك .

                  وأما الشافعي فروي عنه في ذلك ما حكاه لنا المزني ، أنه قال : معنى " لا يفرق بين مجتمع ، ولا يجمع بين متفرق خشية الصدقة " : لا يفرق بين ثلاثة خلطاء في عشرين ومائة شاة ، وإنما عليهم شاة ، لأنهم إذا افترقت كان فيها ثلاث شياه ، ولا يجمع بين متفرق : فرجل له مائة شاة وشاة ، ورجل مائة شاة ، فإذا تركنا مفترقين ففيها شاتان ، وإذا جمعنا ففيها ثلاث شياه ، فالخشية خشية الساعي أن تقل الصدقة ، وخشية رب المال أن تكثر الصدقة ، فأمر أن نقر كلا على حاله .

                  فهذه أقوال قد رويت عن أهل العلم في تأويل " لا يفرق بين مجتمع ، ولا يجمع بين متفرق خشية الصدقة ، وكلهم فقد قبل ما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى الله عليه وسلم وخالف أصحابه في تأويله .

                  ولما اختلفوا في تأويل ذلك ولم نجد فيما اختلفوا فيه نصا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقطع اختلافهم فيه ، وكان القياس في ذلك يدل على ما قال بعضهم في أن لا حكم للمراح والدلو ولا للفحل ، وأن الحكم في ذلك للأملاك لا لما سواها ، كان قول من ذهب إلى ذلك أولى من قول من خالفه .

                  وأما قوله : " وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية " ، فإن أبا حنيفة ، وأبا يوسف ، ومحمدا ، كانوا يقولون تأويل ذلك : أن يكون بين الرجلين مائة وعشرون شاة سائمة شائعة بينهما غير مقسومة لواحد منهما ثلثاها وللآخر منهما ثلثها فيحول عليها الحول ، وتجب فيها الزكاة ، فتكون فيها شاتان على كل واحد منهما شاة ، فلا يكون على المصدق أن [ ص: 317 ] يقسم الغنم بينهما قبل أن يأخذ منهما زكاتهما ، حتى يكون لصاحب الثمانين منها ثمانون شاة بأعيانها ، فيأخذ منها شاة ، وحتى يكون لصاحب الأربعين الشاة منها أربعون شاة بأعيانها فيأخذ منها شاة ، إنما عليه أن يأخذ منها شاتين من جملتها ، فيكون قد أخذ من غنم صاحب الثمانين ثلثيهما وهو شاة وثلث وأخذ من غنم صاحب الأربعين ثلثهما وهو ثلثا شاة ، والذي كان وجب على صاحب الثمانين شاة منها شاة ، والذي كان وجب على صاحب الأربعين شاة منهما شاة ، فرجع صاحب الثمانين على صاحب الأربعين بالثلث الشاة الذي أخذه المصدق ، فضلا عما كان وجب عليه ، لأنه إنما أخذه منه عن صاحبه مما كان وجب على صاحبه ، فإذا تراجعا ذلك كذلك رجعت الغنم بينهما إلى أن صار لصاحب الثمانين منها تسع وسبعون شاة ، وهذا الباقي له بعد الذي كان وجب عليه من الزكاة ، ولصاحب الأربعين تسع وثلاثون شاة وهو الباقي له بعد الذي كان وجب عليه من الزكاة .

                  قالوا : فهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم : " وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية " .

                  وأما مذهب مخالفيهم في ذلك فإن الخليطين المعينين في هذا هما الخليطان بالمراح ، والفحول ، والراعي ، لا بأعيان الغنم ، ويكونان مع ذلك يريحان ، ويسرحان ، ويحلبان معا ، فيكونان بذلك خليطين ، لا باختلاط الغنمين ، ويحضر المصدق فيصدق الغنم بما يجب عليها من الصدقة ، ويأخذ من غنم أحدهما ، فرجع المأخوذ ذلك من غنمه على صاحبه في غنمه الذي أخذه المصدق مما كان وجب على صاحبه .

                  قالوا : فهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم : " وما كان من خليطين يتراجعان بينهما بالسوية " . قد دخل فيه عند هؤلاء القائلين : الخليطان بالمراح وبما سواه مما ذكرنا ، غير اختلاط الغنم ، كان اختلاط الغنم في ذلك أولى أن يكون الشريكان فيه خليطين ، لأن الخلطة بها لا ينفرد فيه واحد من الشريكين ، أولى مما ينفرد به واحد من الشريكين عن صاحبه ، وإذا ثبت ذلك كان التأويل الأول أولى بالحديث من التأويل الثاني .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية