الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  أحكام القرآن الكريم للطحاوي

                  الطحاوي - أبو جعفر الطحاوي

                  صفحة جزء
                  وضع الصدقات في صنف من أصناف الصدقات .

                  قد ذكرنا فيما تقدم من كتابنا هذا ما تأول أهل العلم عليه قول الله - عز وجل - : ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين ) الآية ، غير أنا احتجناها هنا إلى إعادته لشيء أردنا [ ص: 391 ] زيادته فيه ، وهو أن الشافعي - رضي الله عنه - قد كان يذهب إلى أنها في أهل الأصناف الثمانية ما كانوا موجودين .

                  قال : فيعطى الفقراء ، والمساكين ، والغارمون بمعنى : الفقر ، أو المسكنة ، والغرم ، ويعطى ابن السبيل بمعنى البلاغ ، ويعطى العامل بمعنى الكفاية والصلاح المأخوذ له والمأخوذ منه ، ويعطى المكاتبون بمعنى ما يعتقون .

                  فمعناه في ذلك : أن لا يزاد كل صنف منهم على مقدار ما يخرجه من المعنى الذي هو فيه حتى يكون من أهله لا يعطى الفقير ولا المسكين فوق ما يخرجهما من الفقر والمسكنة حتى يكونا غنيين ، ولا يعطى الغارم فوق ما يخرجه من الغرم حتى يكون غير غارم ، ويبقى له فضل ، ولا يعطى ابن السبيل ما يبلغه أهله ويبقى له فضل .

                  قال الشافعي رحمه الله : والذين يقولون : لا بأس بوضعها في صنف واحد من هذه الأصناف ، لا يخالفوه في رجل أوصى لفلان ، ولفلان ، ولفلان ، أو قال : ثلثي لفلان ، ولفلان ، ولفلان أيهما يكونان أثلاثا بينهم ؟ فكذلك لا يكون ما جعله الله - عز وجل - لأهل هذه الأصناف المذكورين في هذه الآية لأهل صنف منها دون نفسهم .

                  قال : ولما كان في عطايا الآدميين كما ذكرنا ، كان في عطايا الله - عز وجل - أحرى أن يكون كذلك هذه معانيه وإن لم تكن هذه ألفاظه .

                  وكان من الحجة عليه لأهل القول الأول فيما حاجهم به من الوصايا أنه يقول : ما أوصى به لفلان ، ولفلان ، ولفلان بينهم بالسوية ، لا تفاضل بينهم فيه ، والذي فرضه الله - عز وجل - من الصدقات في الأصناف المذكورة في آية الصدقات ليس كذلك ، لأنهم فيه متفاضلون إذ كان كل صنف منهم في قوله : إنما يعطى ، بمعناه الذي ذكرته في الآية ، وكان أحد الموصى لهم لو مات قبل الموصي ، فخرج من الوصية ، لم يرجع إلى الباقين حصته التي كانت تكون له لو وجبت له في الوصية ، وكان أهل صنف من هذه الأصناف المذكورة في آية الصدقات لو ذهبوا حتى لم يبق منهم أحد ، كالمؤلفة قلوبهم الذين ذهبوا ، لم يبطل ما كان يكون لهم من ذلك لو لم يذهبوا ، وإنما يرجع ما كان يكون لهم لو لم يذهبوا في مثل ما رجع إليه بقية الصدقات .

                  فدل ذلك أن الله - عز وجل - لو كان جعل الصدقات لأهل الأصناف المسمين في آية الصدقات ، كما جعل الموصي الوصية لأهل الوصايا في مسألة الوصايا ، لما رجع إلى أحد من أهل الأصناف ما جعله الله لغيره من الصدقات ، لأنه إنما جعله لمن سماه له في الآية ، [ ص: 392 ] فلا يجب رجوعه إلى غيره إلا بتوقيف من الله - عز وجل - إيانا على ذلك بآية في كتابه ، أو بلسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، أو بمعنى سواهما يوجب ذلك ، وإذا كان الله - عز وجل - جعل ذلك عنده لأهل الأصناف بمعانيهم التي ذكرهم بها في الآية ، كان نظير ذلك من الوصايا المقصود بها إلى ثلاثة نفر لأعيانهم التي يتساوون بها في الوصايا ، لا لحاجتهم التي يتفاضلون بها في الوصايا ، وكان الوجه في ذلك : لو رفعت الوصية من الموصي كما ذكرنا ، فمات أحد الموصى لهم قبلهم ، ثم مات الموصي في القياس ، قد بطلت الوصية للباقين ، لأنه لا يعلم ما الذي وجب لهما بها ، لأن الذي كان يجب لهما بها لو كان صاحبها حيا فهو ما كان يصيبها إذا قسم الثلث على حاجتهما وحاجته ، فإذا كان قد توفي فقد صارت حاجته التي كانت تعلم منه ، لو كان حيا ، غير معلومة ، وإذا كانت كذلك لم يعلم ما للباقين من الوصية فبطلت وصاياهما لذلك ، وحاش لله - عز وجل - أن يكون مراده في آية الصدقة هذا المعنى ، وإذا وجب أن لا يكون كذلك مراده - عز وجل - فيها ، ولم يكن فيها ما تأوله الناس عليه غير هذا القول الذي قد بطل ، وغير القول الآخر الذي روي عن ابن عباس ، وعن حذيفة في تأويل هذه الآية ، ثبت القول الذي روي عنهما في تأويلها ، وهذا القول أولى من مخالفته ، إذ كان من قوله تقليد الواحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما لم نعلم عن غيره منهم خلافا في ذلك .

                  فقد خالف في هذا ابن عباس ، وحذيفة ، فيما لم نعلم لهما فيه مخالفا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع ما قد شذ مذهبهما في ذلك ما كان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سلمة بن صخر في حديثه الذي رويناه ، وفي إباحته له أخذ صدقات قومه بمعنى الفقر ، لا بمعنى سواه من أصناف الصدقات المذكورة في الآية التي تلونا ، وكيف يجوز أن تتأول هذه الآية على أن الله عز وجل قد تعبد خلقه بأداء زكوات أموالهم إلى من قد فقد بعد موته ، فلا يقدرون عليه ، كما قد عدموا المؤلفة قلوبهم ، وكما يجوز أن يعدموا المكاتبين فلا يقدرون عليهم ، وكان يجوز أن يعدموا أبناء السبيل فلا يقدرون عليهم .

                  ففي هذا التأويل : أن الله - عز وجل - قد تعبدهم بالخروج من زكواتهم إلى من لا يقدرون عليه في حال ما ، وليست كذلك صفات فرائض الله - عز وجل - على خلقه فيما يعتد به من وضع فرائضه فيه ، ولما كان للفقراء والمساكين لا يجوز فقدهم ، تبين بذلك أنهم المقصودون في الآية ، وأن من سواهم ممن ذكرهم معهم فإنما هم أصناف الفقراء والمساكين الذين توضع الزكاة فيهم ، أو فيمن وضعت فيه منهم ، والله الموفق للصواب [ ص: 393 ] .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية