الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  أحكام القرآن الكريم للطحاوي

                  الطحاوي - أبو جعفر الطحاوي

                  صفحة جزء
                  ولما اختلفوا في ذلك ووجدنا الحجة قد قامت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله : " إنما الولاء لمن أعتق " .

                  عقلنا بذلك أنه لا يكون ولاء نسمة قد أعتقها رجل لغيره ، فاستحال بذلك أن يكون [ ص: 366 ] للمسلمين جميعا ولاء ما أعتق بعضهم ، ولما انتفى ما وصفنا ثبت القول الآخر ، وأن المراد بالرقاب هو المعونة للمكاتبين ، كما قد حض عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم فيما :

                  766 - حدثنا أبو أمية ، قال : حدثنا أبو داود الطيالسي ، عن عمرو بن ثابت ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن عقيل ، أن عبد الرحمن بن سهل بن حنيف حدثه ، أن أباه حدثه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " من أعان مكاتبا في رقبته ، أو غارما في عسرته ، أو مجاهدا في سبيل الله - عز وجل - أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله " .

                  767 - حدثنا فهد ، قال : حدثنا علي بن معبد ، قال : حدثنا عبيد الله بن عمر ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن ابن سهل بن حنيف ، عن أبيه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مثله .

                  فعقلنا بهذا الحديث أن الصدقة على المكاتبين معونة لهم في رقابهم حتى يعتقوها بأدائهم عنها وكما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما :

                  768 - حدثنا فهد ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا عيسى بن عبد الرحمن ، قال : حدثني طلحة بن الأمامي ، عن عبد الرحمن بن عوسجة ، عن البراء بن عازب ، قال : جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : علمني عملا يدخلني الجنة ، فقال : " وإن كنت أقصرت الخطبة لقد عرضت المسألة ، أعتق النسمة ، وفك الرقبة " ، قال : أوليسا واحدا ؟

                  قال : " لا ، عتق النسمة أن تفرد بعتقها ، وفك الرقبة أن تعين في ثمنها ، والمنحة الوكوف والفيء على ذي الرحم الظالم ، فإن لم تطق ذلك فأطعم الجائع ، واسق الظمآن ، وأمر بالمعروف ، وانه عن المنكر ، فإن لم تطق ذلك فكف لسانك إلا من خير " .


                  فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث عتاق النسمة غير فكاك الرقبة ، وجعل تحريرها فيه عتاقها كما جعله الله - عز وجل - في كتابه في الكفارة في الظهار ، وفي القتل خطأ ، وفي الأيمان ، وكما أوجبه على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - من الكفارة بالإفطار في شهر رمضان .

                  وجعل فكاك الرقبة المعونة في ثمنها الذي يعتق به كما يفك المرهون بالديون التي هي محبوسة بها [ ص: 367 ] .

                  وعقلنا بذلك أن تأويل قول الله - عز وجل - : ( فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة ) إن ذلك إلا فكاك للرقبة ، هو هذا المعنى ، لا ابتياعها وعتاقها ، والله أعلم .

                  ولم يرد في الحديث الذي روينا والله أعلم بالمعونة ، وثمن الرقبة الثمن الذي يبتاع به ، لأن ذلك لو كان كذلك لم يكن معونة للرقبة ، وإنما كان معونة لمبتاعها الذي قد تحرم عليه الصدقة ، أو قد تحل له ، والذي قد عسى أن يعتقها بعد ابتياعها إياها ، أو يموت قبل أن يعتقها فتعود ميراثا عنه ، أو يأبى في حياته عتقها فلا يجبر على ذلك ، فلا يحكم به عليه ، أو تحدث به حادثة قبل عتقه إياها تمنعه من عتاقها كذهاب عقله وما أشبهه ، عقلنا بذلك أن الفكاك هو ملكية الرقبة حتى يتولى فكاكها به ، لا ما سواه ، ولا يكون ذلك إلا وقد تقدم في الرقبة ما يوجب لها الملك لما يملك ، حتى يفك به الرق عنها ، وهو الكتابة لا غيرها .

                  وكذلك ما جعل الله جل وعز في الآية التي تلونا في الرقاب هو من هذا الجنس وهو ما ملكته الرقاب ، فلا يملك الرقاب ما يؤديه عن أنفسها حتى يعتق به ، إلا وهي مكاتبة قبل ذلك .

                  وقد ذكر الله - عز وجل - في هذه الآية في : ( الصدقات للفقراء والمساكين ) الآية فكان ما أريد به من ذلك هو ما يملكونه ، فكان أولى الأشياء بنا في الرقاب أن يجعل ما أريدت به فيها هو ما يملكه ، ولا يكون ذلك كذلك إلا وقد تقدمت المكاتبات فيها ، فيثبت بذلك أن أولى التأويلين بقوله - عز وجل - : ( وفي الرقاب ) هو ما ذهب إليه الذين جعلوها في المكاتبين .

                  وأما قوله : ( والغارمين ) فهم المدينون ، لا اختلاف في ذلك بين أهل العلم علمناه.

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية