الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  أحكام القرآن الكريم للطحاوي

                  الطحاوي - أبو جعفر الطحاوي

                  صفحة جزء
                  وأما الذين تجب عليهم الزكاة من الناس فقد أجمعوا أن المسلمين البالغين الأحرار الأصحاء العقول الذين يملكون الأموال التي تجب في مقاديرها من أصنافها الزكوات الذين لا يؤتون عليهم إذا أخرجت مما في أيديهم قصرت أموالهم عن بلوغ ما تجب فيه الزكاة ممن قد دخل في الفرض في الزكاة .

                  واختلفوا فيمن هذه صفته ، غير أنه لم يبلغ ، فقال قائلون : الزكاة تجب في أموالهم كما تجب عليهم فيها لو كانوا بالغين . [ ص: 258 ] .

                  ورووا ذلك عن عمر بن الخطاب ، وعن علي بن أبي طالب ، وعن عبد الله بن عمر ، وعن عائشة ، وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهم - .

                  516 - حدثنا سليمان بن شعيب الكسائي ، قال : حدثنا الخصيب بن ناصح الحارثي ، قال : أخبرنا القاسم بن الفضل الحارثي ، عن أبي إياس معاوية بن قرة ، قال : حدثني الحكم بن أبي العاص ، أن عمر بن الخطاب ، قال له : " إن عندي مالا ليتيم قد كادت الصدقة أن تأتي عليه ، فهل قبلكم متجر ؟ قلت : نعم ، قال : فدفع إلي عشرة آلاف ، فغبت ما شاء الله ، ثم رجعت إليه ، فقال : ما فعل المال ؟ قلت : قد بلغ مائة ألف ، قال : رد إلينا رأس ماله ، لا حاجة لنا به " .

                  517 - ، حدثنا فهد بن سليمان ، قال : حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين ، قال : حدثنا القاسم بن الفضل الحداني ، قال : حدثنا معاوية بن قرة ، قال : حدثني الحكم بن أبي العاص الثقفي ، قال : قال لي عمر ، ثم ذكر مثله .

                  518 - حدثنا فهد ، قال : حدثنا محمد بن سعيد الأصبهاني ، قال : أخبرنا شريك بن عبد الله ، عن أبي اليقظان ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى : أن عليا زكى أموال بني أبي رافع ، قال : فدفعها إليهم فوجدوها تنقص .

                  فقالوا : إنا وجدناها تنقص فقال : " هل تريدون أن يكون عندي مال لا أزكيه ؟
                  " .

                  519 - حدثنا محمد بن خزيمة ، قال : حدثنا معلى بن أسد ، قال : حدثنا وهب بن خالد ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر : " أنه كان يكون عنده مال اليتيم ، فربما أنفق بعضه ، وربما أعطى بعضه مضاربة كل ذلك يزكيه " .

                  520 - حدثنا علي بن شيبة ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا ابن أبي ذئب ، قال : حدثني الحارث بن عبد الرحمن ، عن سالم بن عبد الله ، قال : " كان عبد الله بن عمر يلي مال يتيمين من بني كعب ، وكان يؤدي زكاة أموالهما [ ص: 259 ] .

                  فقلت : يا أبتاه ، أتؤدي زكاة أموالهما وأنت لا تتجر لهما ولا تبتغي لهما ؟ فإذا أخرجت الزكاة ذهبت أموالهما ، فقال : والله لأزكين أموالهما ولو كان درهما ، ثم ابتاع لهما دار ابن حديدة " .

                  521 - حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني مالك ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، أنه قال : " كانت عائشة تلي أنا وأخا لي يتيمين في حجرها فكانت تخرج من أموالنا الزكاة " .

                  522 - حدثنا بكار بن قتيبة ، قال : حدثنا مؤمل بن إسماعيل ، قال : حدثنا سفيان الثوري ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، قال : " كانت أموالنا عند عائشة ، فكانت تبضعها في البحر وكانت تزكيها " .

                  523 - حدثنا علي بن عبد الرحمن بن محمد بن المغيرة ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح الجهني ، قال : حدثني بكر بن مضر ، عن عمرو بن الحارث ، عن بكر بن عبد الله بن الأشج ، أن محمد بن عبد الله بن محس حدثه ، أنه سمع القاسم بن محمد ، يقول : " كانت عائشة تزكي أموالنا ونحن صغار " .

                  525 - حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن ابن جريج ، عن أبي الزبير ، سمع جابرا ، يقول في الرجل يلي مال يتيم ، قال : " يعطي زكاته " ، وقال قائلون : لا زكاة فيها ، وليس أهلها ممن يدخل في الفرض المذكور في الآيات التي تلونا . ورووا ذلك عن عبد الله بن عباس .

                  526 - حدثنا فهد ، قال : حدثنا الحسن بن الربيع ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن ابن لهيعة ، عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : " لا تجب على يتيم زكاة حتى تجب عليه الصلاة " . [ ص: 260 ] وكان القياس عندنا في ذلك ما قاله ابن عباس وأولى ، وذلك أن الله - عز وجل - تعبد الخلق بعبادات في أبدانهم وفي أموالهم ، منها : الصلاة ، والصيام ، والحج ، والزكاة ، فكان ما تعبدوا به من ذلك كله طاعة لله - عز وجل - ، تعبدوا بها في أبدانهم ، وفي أموالهم ، وقربة لهم إليه ، وطهارة لهم ، وزكاة .

                  ورأيناهم لا يختلفون في أن الصغار الذين لم يبلغوا ، والمجانين المغلوبين على عقولهم عليهم ، خارجون ممن خوطب بالطاعة لله - عز وجل - بهذه العبادات في الأبدان من الصلاة ، والصيام ، والحج ، فكان النظر في ذلك أن يكونوا خارجين ممن خوطب بالطاعة لله - عز وجل - في هذه العبادات في الأموال من الزكوات .

                  فإن قال قائل : إن العبادات من الصلوات والصيام والحج فهي عبادات على الأبدان ، والصغار لا عبادات على أبدانهم ، فعلمنا بذلك خروجهم من هذه العبادات .

                  وأما الزكوات فعبادات في الأموال ، والصغار يساوون الكبار في ذلك إذ كانوا جميعا في ملكهم ذلك سواء .

                  قيل له : إنهم وإن كانوا في ملكهم للأموال سواء فإن الزكاة لا تجب على كل مالك . ألا ترى أنها لا تجب على أهل الذمة ، ولا على المكاتبين من المسلمين ، ولا ممن سواهم وإن كانوا يملكون من الأموال ما لو كانت لذوي الزكوات من المسلمين وجبت عليهم فيها الزكاة . فدل ذلك أنه قد ردت زكاة الأموال إلى أحكام مالكها ، وروعي ما تعبدوا به فيها ، فأدخل في ذلك المسلمون الأحرار البالغون الذين لا دين عليهم يقصر بهم قضاؤه عن مقادير الزكوات مما أيديهم إليها واصلة ، وأخرج منه الذميون ، والمكاتبون من المسلمين وممن سواهم ، ودل ذلك على أنه يراعى في مالك المال ما يراعى فيه من سائر العبادات في الأبدان من الصلوات .

                  فإن قال : قد رأينا المكاتب متعبدا بالصلاة في بدنه وغير متعبد بالزكاة في ماله قيل له : فقد وكد هذا حكم الصلاة على حكم الزكاة ، فجعل الصلاة واجبة على من لا تجب عليه الزكاة ، ولما كان ذلك كذلك كان الصبي الذي لا صلاة عليه في بدنه أحرى ألا تكون عليه زكاة في ماله .

                  فإن قال : فقد رأيناكم توجبونه على اليتيم في أرضه الحرة العشر أو نصف العشر كما توجبونه على الكبير البالغ الصحيح العقل .

                  قيل له : ذلك لمخالفة الأرض التي يجب فيها العشر ، أو نصف العشر حكم الأموال التي تجب فيها الزكوات سواها ، وذلك أنا رأيناهم لا يختلفون في الإبل السائمة التي تجب [ ص: 261 ] فيها الزكاة ، وفي الذهب والورق والدين التي تجب فيها الزكاة ، أنه يجوز ملك أهل الذمة إياها ويزول بذلك عنها ما كان يجب فيها من العبادات على أهل الإسلام من الزكوات ، لا إلى عوض غيره يكون فيها يجب عليهم .

                  ورأينا الأرضين العشريات ليست كذلك ، لأن المسلم لو باع أرضه من ذمي ليس من أهل العشر ، فأهل العلم في ذلك على أقوال مختلفة .

                  فقائل منهم يقول : لا يملكها الذمي ، ولا يجوز ابتياعها ، لأن العشر الذي كان واجبا فيها غير زائل عنها ، وغير مقدور على أخذه من الذمي الذي ذمته تنفي وجوب الزكاة عليه ، وممن روي ذلك عنه منهم مالك بن أنس .

                  وقائل منهم يقول : يملكها الذمي بابتياعه إياها ، وتتحول إلى أن تصير أرض خراج ، فتكون الخوارج فيها عوضا من العشر الذي كان فيها ، ويوضع موضع الخراج . وممن قال بذلك منهم أبو حنيفة رحمة الله عليه . حدثنا بذلك من قوله محمد بن العباس بن الربيع ، عن علي بن معبد ، عن محمد بن الحسن ، عن أبي يوسف ، عن أبي حنيفة - رضي الله عنه - ، ولم يحك فيه خلافا بينه وبين أبي يوسف ، ومحمد .

                  وقائل يقول : يملكها الذمي ، ويكون عليه فيها العشر مضاعفا وممن روي ذلك عنه أبو يوسف رحمة الله عليه . حدثنا بذلك من قوله سليمان بن سعيد ، عن أبيه ، عن أبي يوسف رحمه الله أنه أملاه عليهم ، وذكر لهم أنه بلغه هذا القول عن الحسن ، والزهري .

                  قال أبو جعفر - رضي الله عنه - : وينبغي في قياس قوله أن يوضع ذلك في مواضع الخراج .

                  وقائل منهم يقول : يملكها الذمي وينفي فيها العشر حقا للمسلمين من ملكها من ذمي ، [ ص: 262 ] أو غيره ، وممن قال ذلك منهم محمد بن الحسن ، حدثنا بذلك من قوله أحمد بن أبي عمران ، عن محمد بن سماعة ، عن محمد بن الحسن رحمه الله .

                  ولا نعلم لأهل العلم في هذه المسألة قولا غير هذه الأقوال التي حكيناها عنهم فيها ، ولا نعلم أن أحدا قال : إن الذمي يملكها ويخلو من وجوب شيء فيها كما يملك سائر الأموال التي تجب فيها الزكوات سواها ، ويخلو من وجوب شيء عليه فيها ، ويبطل ما كان على المسلمين قبله فيها بملكهم إياها .

                  فلما أجمعوا على مخالفة حكم الواجب في الأرضين العشريات حكم الواجب في الأموال سواها دل ذلك على أن حكم الأرضين لن يخلو من واجب فيها من عشر أو خراج ، وعلى أن ما سواها من الأموال قد يخلو من واجب فيه ، فالذي يخلو من الواجبات فيه إذا ملكه من لا عبادة عليه من أهل الذمة في ذمته بذمتهم يخلو أيضا من الواجب فيه إذا ملكه من قد خلا من العبادات من أطفال المسلمين ومن مجانينهم المطبق عليهم لصغرهم ولجنونهم ، وقد وكد ذلك ما في كتاب الله - عز وجل - مذكورا في الزكوات في الأموال ومذكورا في الثمار .

                  فأما المذكور فيه في الزكوات في الأموال فقوله - عز وجل - : ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ) ، فأضاف ما يؤخذ منهم من ذلك إلى الطهارة لهم وإلى الزكاة لأبدانهم ، وذلك مما يعقل أنه قد دخل فيه ذووا العبادات ، وخرج من سواهم ممن لا عبادة عليه .

                  وأما المذكور في الزكوات في الثمار ، فقوله - عز وجل - : ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، فأضاف ذلك إلى الواجب فيه ، لا تذكر فيه طهارة ، ولا زكاة ، كما ذكر في الواجب في الأموال من التزكية لأهلها بها ، والتطهير لهم بها .

                  فدل ذلك على مفارقتها زكاة الأموال التي ذكرنا . وممن كان يذهب هذا المذهب في سقوط الزكوات عن الصبيان وعن المجانين المطبق عليهم من المسلمين أبو حنيفة ، وسفيان الثوري ، وزفر ، وأبو يوسف ، ومحمد .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية