الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  أحكام القرآن الكريم للطحاوي

                  الطحاوي - أبو جعفر الطحاوي

                  صفحة جزء
                  وذهب آخرون إلى أن المراد بالصلاة في هذه الآية هو الدعاء ، لا تلاوة القرآن ، وذكروا في ذلك ما :

                  468 - حدثنا فهد ، قال : حدثنا معلى بن أسد ، قال : حدثنا سلام بن أبي مطيع ، قال : حدثنا هشام بن عروة ، قال : حدثني أبي ، قال : قالت لي خالتي عائشة رضي الله عنها وعن أبيها : " يا ابن أختي ، أتدري فيم أنزلت هذه الآية : ( ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها ) ؟ قلت : لا ، قالت : في الدعاء " .

                  469 - حدثنا ابن أبي مريم ، قال : حدثنا الفريابي ، قال : حدثنا سفيان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها ، في قوله - عز وجل - : ( ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها ) ، قالت : بدعائك .

                  وكأن هذا التأويل الثاني أولى التأويلين عندنا بهذه الآية ، وأشبههما بها ، لأن الدعاء قد وجدناه يسمى صلاة في كتاب الله - عز وجل - ، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، وفي لغة العرب الذين نزل القرآن بلغاتهم .

                  قال الله - عز وجل - : ( يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ) . فكانت هذه الصلاة دعاء .

                  وقال الله - عز وجل - : ( وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم ) يعني بذلك : الدعاء ، ودعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي أوفى ، فقال : " اللهم صل على آل أبي أوفى " ، وقد ذكرناه في ما تقدم .

                  ولم نجد في كتاب الله - عز وجل - ، ولا في لغة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا في لغة العرب منصوصا أن القراءة ، يقال : لها صلاة ، وإن كان قد يجوز ذلك في القياس ، فإن اللغة لا تقاس . وقد بين ما ذهبنا إليه من ذلك ما قد بينه الله - عز وجل - في أول الآية بقوله تبارك وتعالى : ( قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا ) .

                  وكان أول الآية على الأمر بالدعاء ، وآخرها على الصفة التي يكون الدعاء عليها من [ ص: 241 ] مجاوزة المخافتة والتقصير عن الجهر .

                  وقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأمر بالدعاء على هذا المعنى .

                  470 - حدثنا محمد بن عمرو بن يونس ، قال : حدثنا أبو معاوية الضرير ، عن عاصم ، عن أبي عثمان ، عن أبي موسى ، قال : كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر ، فهبطنا في وهدة من الأرض ، فرفع الناس أصواتهم بالتكبير ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا أيها الناس ، أربعوا على أنفسكم ، إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا ، إنكم تدعون سميعا قريبا " .

                  ثم دعاني ، وكنت قريبا منه ، فقال لي : " يا عبد الله بن قيس ، ألا أدلك على كلمة من كنز الجنة ؟ " قلت : بلى ، قال : " قل : لا حول ولا قوة إلا بالله " .


                  471 - حدثنا الربيع بن سليمان المرادي ، قال : حدثنا أسد بن موسى ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، وسعيد الحريري ، وثابت البناني ، عن أبي عثمان النهدي ، عن أبي موسى - رضي الله عنه - ، قال : لما دنونا من المدينة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقبل الناس ، فرفعوا أصواتهم .

                  فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا أيها الناس ، إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا ، إن الذي تدعونه بينكم وبين أعناق أكتافكم " ، فقال : " يا أبا موسى ، ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة ؟ " قال : بلى قال : " لا حول ولا قوة إلا بالله " .


                  قال : فدل ما ذكرنا على أن الجهر الذي هو رفع الصوت في الدعاء مكروه ، وأن الذي ينبغي أن يستعمل منه ما دون ذلك وأن يسمعه الداعي به عن يمينه وعن يساره ، حتى يكون قد تجاوز بذلك المخافتة التي لا يسمعها من المخافت بها عن يمينه ولا عن يساره وذلك أشبه بما روي عن عائشة رضي الله عنها في تأويل الآية التي تلونا مما روي عن ابن عباس - رضي الله عنه - مما ذكرناه عنه وبالله التوفيق .

                  وقد دل على هذا التأويل الآيتان اللتان في آخر سورة الأعراف ، وهو قوله - عز وجل - : ( ادعوا ربكم تضرعا وخفية ) ، ( واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين ) ، كان ذلك عندهم جميعا على الدعاء [ ص: 242 ] والذكر لله - عز وجل - ، وقد أمر فيه بدون الجهر من القول وفوق المخافتة ، فلم يكن ذلك في المعنى المروي عن ابن عباس في الآية الأخرى ، فأشبه أن يكون المراد في تلك الآية هو المراد في هذه الآية ، والله أعلم بما أراد بذلك .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية