الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  أحكام القرآن الكريم للطحاوي

                  الطحاوي - أبو جعفر الطحاوي

                  صفحة جزء
                  فإن ذهب ذاهب آخر إلى أن الركعتين اللتين صلاهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالطائفة الثانية كانت له تطوعا ، وكانت للمأمومين فريضة ، لأنه يجوز عنده أن تصلي الفريضة خلف إمام يصلي تطوعا ، ويحتج في ذلك بما روي عن معاذ - رضي الله عنه - في صلاته لقومه العشاء بعد صلاته إياها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أن إبراهيم بن مرزوق :

                  388 - حدثنا ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن ابن جريج ، عن عمرو بن دينار ، قال : حدثني جابر بن عبد الله ، أن معاذا - رضي الله عنه - كان " يصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العشاء ، ثم ينصرف إلى قومه فيصلي بهم .

                  هي له تطوع وهي لهم فريضة ، وليس من الحديث ، ولا من لفظ جابر ، ولا عمرو بن دينار ، وذلك أن ابن عيينة قد روي هذا الحديث عن عمرو ، وأبي الزبير بألفاظ أكثر من ألفاظ حديث ابن جريج ولم يذكر فيه هذا الحرف ، وذلك أن إسماعيل بن يحيى المزني :

                  389 - حدثنا ، قال : حدثنا الشافعي ، قال : حدثنا سفيان ، عن عمرو سمع جابرا ، يقول : كان معاذ بن جبل - رضي الله عنه - يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة العشاء ، أو قال : العتمة ، ثم يرجع فيصليها بقومه في بني سلمة ، فأخر النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة العشاء ، أو قال : العتمة ذات ليلة ، فصلى معاذ معه ، ثم رجع فأم قومه ، فافتتح سورة البقرة ، فتنحى رجل من خلفه فصلى وحده ، فقيل له : أنافقت ؟ قال : لا ، ولآتين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، إنك أخرت العشاء ، وإن معاذا يصلي معك ، ثم رجع فأمنا ، فافتتح سورة البقرة ، فلما رأيت ذلك تأخرت فصليت ، وإنما نحن أصحاب نواضح ، نعمل بأيدينا .

                  فأقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - على معاذ ، فقال : " أفتان أنت يا معاذ ؟ أفتان [ ص: 207 ] أنت يا معاذ ؟ أفتان أنت يا معاذ ؟ اقرأ سورة كذا وسورة كذا " .


                  390 - حدثنا المزني ، قال : حدثنا الشافعي ، عن سفيان ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله .

                  وزاد أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال له : " اقرأ بسبح اسم ربك الأعلى ، والليل إذا يغشى ، والسماء والطارق ، ونحوها " .

                  قال سفيان : فقلت لعمرو : إن أبا الزبير ، يقول : قال له : " اقرأ بسبح اسم ربك الأعلى ، والليل إذا يغشى ، والسماء والطارق " .

                  فقال عمرو : هو هذا أو نحو هذا .

                  391 - حدثنا أبو بكرة ، قال : حدثنا إبراهيم بن يسار ، قال : حدثنا سفيان ، عن كل واحد من عمرو ، ومن أبي الزبير بما رويناه عنه في حديثي المزني ، وتابع سفيان على ترك ذلك الحرف منصور بن زاذان .

                  392 - فحدثنا أبو أمية ، قال : حدثنا سريح بن النعمان الجوهري ، قال : حدثنا هشيم ، قال أخبرنا منصور يعني ابن زاذان ، عن عمرو ، عن جابر ، أن معاذا - رضي الله عنه - كان " يصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة العشاء الآخرة ، ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة " .

                  وتابع سفيان على ذلك إبراهيم بن إسماعيل غير أنه ذكره عن أبي الزبير ولم يذكره عن عمرو .

                  393 - حدثنا أبو أمية ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : حدثنا إبراهيم بن إسماعيل ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، أن معاذا كان " يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يرجع فيصليها بقومه " .

                  ففي هذه الآثار التي روينا أن معاذا كان يصلي لقومه الصلاة التي صلاها مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فذلك ينفي ما في حديث ابن جريج ، لأنه لو كان يصلي بقومه [ ص: 208 ] تطوعا لكان ما يصلي بهم غير ما كان صلاته مع النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي قوله : " إنه كان يصلي بقومه ما صلاه مع النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل ذلك " ، دليل أنه فعل من ذلك ما ذكرناه مما كان يفعل في أول الإسلام من إعادة الفريضة مرتين ، حتى قطع ذلك نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنه .

                  394 - حدثنا محمد بن علي بن داود ، قال : حدثنا عفان ، قال : حدثنا وهيب بن خالد ، عن عمرو بن يحيى المازني ، عن معاذ بن رفاعة ، عن رجل من بني سلمة ، يقال له : سليم أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، إن معاذا يأتينا بعد ما ننام ، ونكون في أعمالنا بالنهار ، فينادي بالصلاة فنخرج إليه ، فيطول علينا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا معاذ ، لا تكن فتانا ، إما أن تصلي معي ، وإما أن تخفف على قومك " .

                  ففي قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا القول لمعاذ ، لما علم ما كان يفعل مما ذكرناه عنه ، دليل على أنه لم يبح له جمعهما جميعا ، لأنه لو أباح له جمعهما ، لقال له : صل معي وخفف بقومك .

                  فإن قال قائل : فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر قوم معاذ الذين صلوا خلفه بإعادة ما صلوا خلفه كذلك .

                  قيل له : وكيف يأمرهم بإعادة صلاة قد كانت لهم مباحة أن يصلوها كما صلوها خلف معاذ ، لما قد ذكرنا عن ابن المسيب ، وخالد بن أيمن ، أن أهل العوالي ، وهم قوم معاذ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد كانوا يصلون الفريضة مرتين حتى نهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك .

                  فلما كانوا على صلاة قد كانت مباحة لهم لم يبلغهم النهي عنها حتى صلوها على الفرض الأول كانت مجزئة عنهم ، ولم تكن عليهم إعادتها .

                  وقد كان أبو يوسف رحمه الله ، قال مرة : لا تصلى صلاة خوف بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحكى ذلك عنه محمد وأنكره عليه ، وخالفه فيه إلى قول أبي حنيفة الذي رويناه عنه .

                  وكان من حجة أبي يوسف فيما ذهب إليه من ذلك أن الله - عز وجل - قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : ( وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة ) الآية ، فإنما أمرهم بذلك لفضل الصلاة معه على صلاتهم وحدانا ، وعلى صلاتهم مع غيره [ ص: 209 ] .

                  وكان من الحجة عليه للآخرين فيما احتج عليهم من ذلك أن قول الله - عز وجل - : ( وإذا كنت فيهم ) ، كقوله : ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ) ، فلم يكن ذلك على صدقة تنقطع بوفاته يأخذها ولاة الأمر من بعده كما كان هو يأخذها في حياته - صلى الله عليه وسلم - .

                  فقال قائل : لا يشبه هذا قوله - عز وجل - : ( وإذا كنت فيهم ) لأن قوله : ( خذ من أموالهم صدقة ) قد جعل إليه أخذ الصدقة ، فكان - صلى الله عليه وسلم - يأخذها بنفسه ، ويأخذها بأمره من يوليه أخذها إياه بنفسه ، وأخذ غيره إياه له بأمره سواء ، وهو في ذلك أخذ له .

                  وأما قوله - عز وجل - : ( وإذا كنت فيهم ) فإن كون غيره بأمره فيهم ليس كونه ، فالأخذ يكون من الآخذ بنفسه وبغيره ممن يأمره بذلك ، ويكون فيهما جميعا أخذا ، والكون لا يكون من الكائن فيهم ، إلا بكونه بنفسه لا بكينونة غيره فيهم ، لأنه في تكوينه غيره فيهم مكون لغيره غير كائن بنفسه .

                  قيل له : أما الكون الذي لا يكون إلا من النبي - صلى الله عليه وسلم - في كونه بيديه فهو كما ذكرت ، ولا يجوز أن يخلف فيه ، وأما الكون الذي به تقيم الفرائض فإن خليفته في أمته هو خليفته في إقامة الفرائض التي كان يقيمها .

                  وليس القصد بالخطاب إلى كونه في الناس بمسقط للفرائض عنهم بخروجه منهم ، ولا معه لحكمها بعده كما كانت عليه في حياته - صلى الله عليه وسلم - .

                  وقد رأينا أشياء جرت على خطاب خاصة من الناس ، فلم يكن المراد فيها من خوطب بها خاصة دون من سواهم من الناس ، ولم يكن ذهاب المخاطبين بها مسقطا لفرضها عمن حدث بعدهم ، ولا مزيل لأحكامها عما كانت عليه من ذلك قول الله - عز وجل - لنبيه : ( يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ) الآية ، فلم يكن القصد بالخطاب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك ما يمنع أن يكون ذلك إلى من خلفه من بعده كما كان إليه في حياته ، بل كان ذلك إلى خلفائه من بعده كما كان إليه قبلهم .

                  ومن ذلك قوله - عز وجل - : ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ) ، ثم قال - عز وجل - : ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) ، ولم يقل : فمن شهد الشهر فليصمه مع أن قوله : ( يا أيها الذين آمنوا ) يخبر بتقدم إيمانهم نزول الآية .

                  وقوله : ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) يدل على أنه إنما عنى المخاطبين ، ولم يكن [ ص: 210 ] ذلك الخطاب على المعدومين ، ولا على من لم يلحق الفرائض ممن كان صبيا في وقت نزول الآية ، وقد لحق ذلك كل من عاد حكمه إلى حكم أهل الفرض الأول ممن خوطب بالآية ، وصار اللاحقون بهم والكائنون بعدهم مخاطبين بها ، مرادين بفرضها كما كان من كان من المؤمنين في وقت نزولها .

                  ومن ذلك قوله - عز وجل - : ( فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ) الآية ، وقوله : ( وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح ) الآية . وقوله : ( ذلك لمن خشي العنت منكم ) وأشباه هذا في القرآن كثير .

                  فلما كان الحادثون ممن فيهم المعنى الذي من أجله وجب الفرض على الأولين ، يكونون في الفرض عليهم ، وفي لزومه إياهم كالأولين ، كان كذلك الحادثون من ولاة الأمر في إقامة الفرائض ، والكون فيمن يقيمونها فيهم في حكم الذين خلفوه فيهم .

                  فإن قال قائل : إن الصلاة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها من الفضل ما ليس للصلاة مع غيره فوجب لفضل الصلاة معه إباحة الانصراف منها في غير موضع الانصراف في غيرها ، والصلاة مع من هو مثله فيهم كما تفضل الصلاة معه الصلاة مع غيره من الناس .

                  قيل : الأمر في فضل الصلاة معه صلى الله عليه وسلم ، كما ذكرت ، ولكنا لم نر ذلك الفضل أسقط فرضا عن المأمومين ، ولا أباح محظورا كان عليهم .

                  ألا ترى أنهم يتطهرون لها كما يتطهرون للصلاة مع غيره ، ويأتون بقيامها ، وركوعها ، وسجودها ، وسائر ما يأتون به فيها معه كما كانوا يأتون به لو صلوها مع غيره ، فلما كان فضل الصلاة معه صلى الله عليه وسلم ، غير مغير لحكم الصلاة في نفسها ، ولا لحكم الفرض على المأمومين فيها ثبت بذلك أن ما أبيح لهم من الانصراف لم يكن لفضل الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنه إنما كان لأن نفس الصلاة كذلك كانت .

                  وحجة أخرى وهي أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين شهدوا نزول الآية ، وحضروا استعمال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إياها قد جعلوها من بعده - صلى الله عليه وسلم - على حكمها الذي كان في وقته ، منهم : ابن مسعود ، وحذيفة ، وزيد بن ثابت ، وقد سئلوا عنها بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، فأتوا بها وأخبروا كيف [ ص: 211 ] صلوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يمنعوا من حدثوه بها عن امتثال ذلك ، ولا أعلموه أن ذلك مما قد سقط بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو كان فرضها خاصا إذا لأعلموا ذلك من سألهم عنها كما أعلم أبو ذر الذي سأله عن فسخ الحج ، فقال : كان لنا وليس لكم ، وسنأتي بذلك بإسناده في موضعه من كتابنا هذا إن شاء الله تعالى .

                  ففي تركهم تبيان ما ذكرنا لسائلهم دليل على ما ذهب إليه أبو حنيفة ، وزفر ، وأبو يوسف ، في قوله الذي تابعهما عليه ، ومحمد بن الحسن ، والشافعي .

                  وقد روينا عن سهل بن أبي حثمة في هذا الباب وصفه صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحضرة العدو في حديث شعبة عن عبد الرحمن بن القاسم .

                  ثم روينا من حديث مالك ، وشعبة ، عن يحيى بن سعيد ذكر كيفيتها ، فذلك أيضا دليل أن مذهبه كان في ذلك كمذهب من ذكرنا ممن يقول : إن للناس استعمالها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية